د. اشرف السيوطى الناس في بلادي أكثرهم جوعي.. بداية من الطعام نهاية بالجنس.. تتردد بينهم عبارات كأنها نشيد كل يوم.. الجوع كافر.. لو كان الفقر رجلاً لقتلته..
ولكن أخطر العبارات ترديداً هي قول الإمام علي "عجبت لمن لا يجد قوت يومه ألا يخرج شاهراً سيفه".. ما ينذ بثورة قادمة.. هي ثورة الجياع..
فالمضطر إلى الموت جوعاً يبح لنفسه كل شيء من أجل البقاء.. أكل ميتة.. سرقة.. نهب.. قطع طريق.. وغيرها مما حرم الله.
أصبح حوار الجياع اليوم يغطي على كل الحوارات.. حوار الأديان.. حوار الأرض.. حوار العولمة..
فالجوعى في بلادي يشكلون أكبر نسبة.. ولكنهم صامتون.. فماذا لو خرجوا عن صمتهم وقرروا أن يتحدثوا بصوت مسموع وبلغة يفهمها أصحاب الكروش المستأثرين لأنفسهم بأرزاق ملايين المتعبين والجوع.
الشعب لم يعد يثق بالحكومة.. ولم يعد يضع آمالاً عليها.. فقد استنزفوا ثرواته لصالح فئة معينة.. وحولوا الأرض إلى عزبة يتقاسمها أصحاب النفوذ والوجاهة.. وربما نسوا أن الوطن إذا جاع ثار.
حُرم الوطن من كل حقوقه وأبسطها.. حُرم من حياته الكريمة إلا أصحاب السيادة من أولياء الله الصالحين. ونظرة بسيطة إلى طبقات المجتمع والتفاوت الطبقي الرهيب.. قد يصيبك بالدوار أو ربما بصدمة.
ففي الوقت الذي انسحب فيه الأغنياء إلى منتجعاتهم.. وتركزت الثروة في أيديهم.. أصبحت مصر فقط أطلال مدن وخرائب يسكنها الجياع.. منهم (15) مليون يسكنون العشوائيات.
وفي الوقت الذي تتقاضى فيه بعض الفئات ملايين الجنيهات.. نجد بعض طلاب العلم لا يجدون ما يسدون بهم جوعهم.. حتى ثمن الكتب لا يجدونها.
في الوقت الذي يهتم به الأغنياء بالعناية بكلابهم.. هناك جياع سيتحولون إلى كلاب مسعورة في الوقت القريب. حوار الجياع قادم لا محالة.. وبعدها ثورة ستقلع الأخضر واليابس في طريقها.. وسيكون الأغنياء أول ضحاياها.. مهما تصوروا أنهم قادرون على إسكات بطون الجوعى وعقولهم وأيديهم.. فسوف يكتشفون أن مارد الجوع بدأ يتململ في قمقمه.. معلناً بقدوم ثورة الجياع.
وما يحدث اليوم من اعتصامات واضطرابات.. من ثورات اجتماعية في كل مكان تحت سماء بلادي.. من ثورة الزيت.. إلى ثورة الأنابيب.. مروراً بثورة الخبز.. لهي أولى بشائر هذه الثورة.
ومما يزيد من قرب ثورة الجياع.. الارتفاع الجنوني والغلاء المتوحش الذي يشبه ذراع الأخطبوط الذي يطيل كل شيء.. إلا السادة الوجهاء.. أصحاب النفوذ.
الجوع كافر قاهر.. يحرك الجوارح الكامنة في صاحبه.. والجائع يحفر الصخر ليقهر جوعه (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) [الحج 39.
وها هي الملايين من الجوعى بدأت تتململ من الغصة التي في الحلقوم.. وبلغت القلوب الحناجر.. وسوف يأتي اليوم الذي تخرج فيه لتدوس كل شيء في طريقها.. بداية من الأغنياء الذين يحتكرون قوت الشعب.. ويتاجرون بلقمة العيش.
إنها نظرة اجتماعية أكثر منها نظرة دينية.. فشعبنا يصبر ما يصبر.. ولكنه لا يستكين لظلم أو لقهر.. فإن كنت في ريب مما أقول فانظروا إلى الماضي القريب.. إلى عام 1977 التي أعلن فيها الشعب ثورته.. والتي عرفت وقتها بانتفاضة الخبز.. وأصر السادات على أنها (انتفاضة الحرامية).. ولم تكن الحالة بهذا السوء الذي وصلت إليه.. فلم تكن الزيادة سوى قروش معدودة..
فكيف سيكون الحال في ظل قفزات جنونية للأسعار.. نمسي على أسعار.. ونصبح على أسعار أخرى.. ولمَ لا والوطن أصبح ساعة في يد أصحاب النفوذ والسلطة.. يقدمونها كما يشاءون ويؤخرونها كما يشاءون.. هذا توقيت صيفي.. وهذا توقيت شتوي..
حوار الجياع.. ومن بعده ثورة الجياع.. قادمة لا محالة.. في ظل تخلي الدولة عن حماية معدومي الدخل.. إن كان هناك دخل.. ولكن هل حقاً هناك ثورة للجياع قادمة؟
بنظرة سريعة على الثورات الاجتماعية.. ثورات الجياع في معظم أنحاء العالم نلاحظ أنها لم يتوفر لها هذا الكم الهائل من أسبابها المتوفرة عندنا.. مما يعني شيئاً واحداً.. أننا لن نقوم بثورة للجياع.. أو بعبارة أخرى أننا لن نستطع القيام بثورة للجياع.. ليس عن ضعف أو بسبب تغير الأوضاع إلى الأحسن.. وإنما بسبب التركيبة العجيبة لهذا الوطن.
استطاعت الحكومة –دون قصد- أن تجعل هناك توازن اجتماعي مزيف.. فلم يعد أحد ينام جوعان.. انتشرت الرشوة والسرقة.. وأصبح الكل يتكسب من الكل.. ولم يعد هناك منطقة تفصل الحلال عن الحرام.. (الحلال بينّ والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات).
كما أننا نعيش في وطن يتميز بميزة فريدة عن باقي الأوطان.. وطن أمنى من الطراز الأول.. يسمع دبيب النملة فيه.. فازداد الناس استسلاماً ..... وأصبح الكل يهمس في سره بضرورة التغيير.. ولكنه ينتظر مَنْ ينوب عنه في هذا الأمر.
شيء أخر يمنع قيام تلك الثورة.. أين الرجل الذي يخرج ويمتلك الكاريزما التي تجعل كل الجوعي يلتفون حوله.. في ظل غياب حقيقي لأحزاب هي موجودة بالاسم ولكنها غائبة بالفعل.. حتى وإن قامت هذه الثورة.. ستكون ثورة فردية فوضوية بلا نظام.. الكل فيها يقول: نفسي أولاً.
عرفتم لماذا لن تقوم ثورة للجياع في مصرنا المحروسة؟!
وإذا كنا نظرنا إلى حوار الجياع نظرة اجتماعية.. فقد يتساءل البعض: ما هي نظرة الدين لحوار الجياع؟ أو بمعنى أخر: كيف عالج الإسلام ظاهرة الحرمان والجوع؟
إذا بلغ الحرمان مبلغ اليأس اندفع الجائع إلى الرذائل.. فيصبح شعار القناعة كنز لا يفنى مجرد شعار تنطقه الألسنة وتأباه القلوب والعقول.. والحقيقة أن الإسلام لم يعالج هذه القضية بتقويه الوازع الديني فقط – كما يزعم بعض المتأسلمين- أو بتصوير المجتمع الإسلامي في صورة نفر من الأغنياء يتصدق على نفر من الفقراء.. فليس ذلك من مقاصد الشريعة الإسلامية.
وإنما عالج هذه القضية بعدة طرق.. منها إغناء الفقراء عن طريق توفير العمل لسد احتياجهم.. فقال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) [التوبة105].
أو عن طريق الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية التي توفر المأوى والطعام للعاجزين من الفقراء.. ولنا في صحابة النبي (ص) الأسوة الحسنة في علاج هذه القضية الاجتماعية.. فها هو (عبد الرحمن بن عوف) [رضي الله عنه] في عفاف يعجز القلم عن وصفه يأبى أن يعيش عيالاً على (سعد بن الربيع) بعدما آخى الرسول بينهما.. ويسأله: أين سوقكم؟ فباع واشترى حتى كثر ماله
عاش هذا الصحابي مع كل آية من آيات القرآن.. بل وتعايش معها.. فها هو يستمع إلى قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) [آل عمران 92] حتى يسرع الخطأ لينفق ماله لله.. رغبة فيما عند الله وزهداً في تلك الدنيا الفانية..
فعن طلحة بن عبد الله بن عوف قال (كان أهل المدينة عيالاً على عبد الرحمن بن عوف: ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم، ويصل ثلثاً) [سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي].
وها هو الخليفة الراشد (عثمان بن عفان) لما كان المسلمون لا يجدون الماء العذب.. قام النبي (ص) يعرض على أصحابه تلك الصفقة الرابحة.. فقام عثمان –رضي الله عنه- السبَّاق إلى كل خير فاشتراها ووهبها للمسلمين.. ففاز بثواب كل من شرب شربة ماء أو توضأ من هذا الماء. [فتح الباري].
ولما اشتد القحط بالمسلمين في زمان أبي بكر، فقال الخليفة لهم: "إن شاء الله لا تمسون غداً حتى يأتيكم فرج الله.. فلما كان صباح الغد، قدمت قافلة لعثمان، فغدا عليه التجار، فخرج إليهم وعليه ملاءة.. وسألوه أن يبيعهم قافلته.. فسالهم: كم تُربحونني؟ قالوا: العشرة اثنى عشر، قال: قد زادني.
قالوا: فالعشرة خمسة عشر، قال: قد زادني، قالوا: مَنْ الذي زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: إنه الله زادني بكل درهم عشراً، فهل لديكم أنتم مزيد؟ فانصرف التجار عنه، وهو ينادي: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة بلا ثمن، وبلا حساب" [خلفاء الرسول: لخالد محمد خالد].
إنها تجارة رابحة مع الله تعالى.. إنها أسمى صور التكافل الاجتماعي التي أقرها الإسلام.. وشهد تاريخ الإسلام حدثاً لا مثيل له في تاريخ البشرية.. ففي عهد (عمر بن عبدالعزيز) تحقق النموذج الأمثل للتكافل الاجتماعي بين أبناء الأمة..
فقد أدرك أن التفاوت الاجتماعي هو نتيجة لسوء توزيع الثروة، فرسم سياسته على إنصاف الفقراء والمظلومين.. فمنع الكبراء من الاستئثار بثروة الأمة.. وصادر أموالهم التي اغتصبوها.. وأعادها إلى أصحابها.. وزاد في الإنفاق على الفئات المحرومة وتأمين مستوى الكفاية لها عن طريق الزكاة.
فجنت الأمة كلها ثمرات هذه السياسة.. فقد عم الرخاء البلاد والعباد.. حتى قال رجل من ولد زيد بن الخطاب (فما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فما يجده، فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس) [عمر بن عبد العزيز للدكتور: علي الصلابي].
هذا هو العلاج الأمثل قبل أن تهز ثورة الجياع أركان الوطن .. فليس المطلوب من الأغنياء إخراج الزكاة فقط.. وهذا ما لم يفعلوا في الماضي.. وإنما أصبح المطلوب إعادة كل ما نهبه بعضهم من أموال الجياع بغير حق..
أعيدوا أموال الجياع.. دعوهم يشربون من البئر.. غيروا من أنفسكم أولاً (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
يا ترى هل وصلت الرسالة.. وفهمها القاص والداني؟
أم أن القار ونية التي تملكت من نفوس الأغنياء جعلتهم يصدون آذانهم عن أين الجياع والمحرومين من الوطن.. وصموا آذانهم عن النصيحة بحسن التعامل مع المال بسلوك متوازن فيأخذ منه بمقدار ما يحتاج إليه في دنياه.. ثم يوجه ما يزيد إلى الطاعة والإنفاق فيما يرض الله..
وأعلنوا حجة الرأسماليين.. هذا المال من جهدي.. وما دام نتاج جهدي فلا ينبغي أن يكون لأحد غيره أي حق فيه.. وهذا هو منطق الرأسمالية.. حين يعبد أصحابها المال وينسون حقوق الآخرين فيه.
فيكون عدل السماء أن تخسف بهم الأرض.. كما حدث مع مؤسس القارونية (قارون) .. أو ثورة جياع يكونو هم أول ضحاياها.. ثورة يتغنى فيها الشعب بقوله: