أصبحنا .. " بلاد تجيد كتابة شعر المراثي .. وتمتد بين البكاء والبكاء .. بلاد بكعب الحذاء تدار .. فلا من حكيم .. ولا من نبي ..ولا من كتاب .. بلاد بها الشعب يأخذ شكل الذباب .. بلاد تعد حقائبها للرحيل وليس هناك رصيف .. ولو موتنا كان من أجل أمر عظيم لكنا ذهبنا إلى موتنا ضاحكين .. ولكنهم قرروا أن نموت ليبقى النظام .. وأخوال النظام .. وتبقى تماثيل مصنوعة من عجين .. " لم أجد أبلغ من شعر نزار قباني معبرا عن مسلسل الرعب الذي بدأ الوطن يحيا حلقاته ويبدو أنه يأبى أن ينتهي عاجلا ، وكأننا نريد أن نصبح مواطنين بلا وطن وأن نعتقل داخل أحزاننا وأن لا نسير إلا نحو الهاوية بعد أن اقترب احساسنا بالأمان أن يضيع ، فأوطاننا مقل العيون وجواهرنا العتيقة التي تحتاج لأن نصنها قبل أن نفقدها ونندم عليها ، هل نسينا قول الجاحظ في رسالته " كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه " فهل ما قرأته كان حقيقة أم ضربا من الجنون أو حتى الخيال ؟ عقلي غير قادر على أن يصدق أن بيننا كارهين حاقدين مارقين لأحلامنا سارقين ، وأننا نسير في طريق " لبننة " أو " أفغنة " الوطن والذي لا يمكن لأي عاشق لتراب هذا البلد أن يقبله ولابد من مواجهة ذلك مهما كلفنا من غال وثمين ، ولكني في نفس الوقت أدرك أن العنف لا يلد إلا عنفا أشد وأنه ككرة النار تحرق كل ما يقابلها لكنها تزداد لهيبا واشتعالا بما تلتهمه في طريقها .. وقلبي يدرك كذلك أننا شعب متسامح لم يجبل على الكراهية والعنف وأنه يعي قيمة الوطن فمثله لا يتكرر، وأوقن أن بلادنا هي البقعة الفاضلة في قلوبنا ، لا يمكن أن أتصور أننا فقدنا الراشدين المتعقلين المخلصين القادرين على رأب الصدع وحل المعادلة قبل أن تصعب علينا وتتعقد . كيف نعيش في وطن نحمله داخلنا نعشقه ونشتاق إليه ونقسم به ونتركه يضيع ونحن نعلم أن ضياعه يخيفنا أكثر من الظلام ؟ كيف نتطلع لضحكاته ونحن نسقيه الكثير من الدموع والدماء ونقدم له القرابين من أرواح الشهداء ؟ لابد أن نعي أن مشاكلنا لن تحل بالمهدءات والمسكنات ، كما أنها لن تنتهي كذلك بإشعال المزيد من النيران .. بلادنا تحتاج ليد حانية واعية تعبر بها لبر الأمان ، وعقل يدرك أن الوطن عصي على الرحيل من قلوبنا مهما رحل الراحلون أو كره الكارهون ، وأنه باق ولا يمكن بيعه مهما غلت الأثمان أو برزت أنياب الذئاب اللئام . يا وطني الحب والأمن والصديق ، يا من أدركت أنا مؤخرا أن قسوتك أحيانا وعقابك وغضبك حب ،متى نوفيك حقك ونزيل حزنك ونمسح دمعك ونرد إليك فرحك ونكفيك ما أهمك ؟ يا وطن نحمله داخلنا وعشقه عصّي على الكتمان وأبّي على التفتيت والانقسام ، يا وطن لا تؤدي جميع الطرق إلا إليك أو هكذا يجب حتى نجنبك السقوط السحيق الذي دبر لك بليل ، يا وطن يئن .. وقلوبنا له تحن .. تود لو تطمئن .. فمتى تطمئن ؟