العقل الرسمي العربي مسكون بهاجس المؤامرة والتآمر منذ وجوده، يعيش الحالة وتشكل جزءا من كينونته، وهو الأساس الذي اعتمده سايكس وبيكو عند رسمهما الخارطة السياسية الجديدة للوطن العربي، ناهيك عما تحوي من عناصر فرقة وخلاف واختلاف، وبفضلها أصبحنا أمما وشعوبا لا نتعارف. تقسيم المشرق العربي تحديدا على هذه الشاكلة لعدة غايات وفي مقدمتها الهيمنة على المنطقة ونهب ثرواتها بربط مصير حاكيمها بيد الأجنبي، وتمكين الصهاينة من فلسطين بإيجاد محيط ضعيف، وحرمان بعض الدول من إطلالة حقيقية على البحار، وإيجاد دول تفتقرالى أبسط مقومات الحياة. هذا فضلا عن الخلافات الحدودية بين مصر والسودان، والخلافات السعودية مع اليمن والإمارات وقطر، والخلاف بين الآخيرة والبحرين ..الخ. إتفاق سايكس بيكو كُنا نلعنُهُ بالأمس القريب، الذي لم يسمح بأي شكل من أشكال الوحدة إلا في إطار ماسمي بجامعة الدول العربية زورا، والتي لا تعدو كونها أكثر من منتدى أنظمة يعج بكل تناقضاتها وإشكالياتها، وعلى ما يبدو أننا سنترحم عليه، حيث تفضلا علينا بأن جعلوا لنا سودانا واحدا لا سودانين، وعراقا واحد ليس عدة 'أوروكات' كما سماه السومريون، وقد يكون القادم أعظم. لم يكتفوا بذلك بل خلقوا أوضاع مختلة من كل الأصناف والأشكال، نزاع، طائفي،عرقي، أثني، وفي الحقيقة كل ذلك بمثابة ألغام موقوتة قابلة للانفجار متى شاؤا وفي أي وقت. علاقة الأنظمة العربية فيما بينها مبنية على الريبة والشك، محكومة بهاجس الخوف، هذا الواقع أغرى بعض الأنظمة السعي لمحو الدول الأصغر استنادا لاعتبارات تاريخية وجغرافية تلك الحقيقة التي تم تغييبها، وغاب عنهم ان وجود مثل هذه الكيانات ما هو إلا طعم للإيقاع بهم في الفخ، وشهدنا كيف أعيد العراق قرون الى الوراء عندما وقع في فخ الكويت، والموقف من سوريا عندما سقط بالفخ اللبناني، وبمساعدة عربية. على هذا فالعلاقة منذ إنشاء تلك الكيانات بنيت على التآمر والتخوين والارتماء في حضن الأجنبي، وعلى الرغم من كل التجارب التي مرّت بها تتجاهل حقيقة ان لا حل لدى تلك القوى، إلا مساندة طرف ضد آخر لتعميق الخلافات وإستعصائها على الحل. تحالف الدول العربية مع دول الإستعمار الحديث لايمكن ان يكون بالمجان وبدون ثمن، وليس بين متكافئين والأقوى يفرض شروطة، ولا يخفي الغاية من التحالف الذي تقتضيه مصالحة بالدرجة الأولى. التآمر حجة تستمد منها بعض الأنظمة العربية شرعيتها، تحت ذرائع التصدي للهيمنة الإمبريالية العالمية بالطبع لغوا دون فعل، ومبررا لإسباحت البلاد والعباد، حكمت شعوبها بالحديد والنار، وجعلتهم في آخر مصاف شعوب العالم. بعض الأنظمة والحركات والأحزاب تعيش حالة فصام مع الذات، ففي الوقت الذي تقف فيه بعض الأنظمة الممانعة موقف المؤيد لما جرى في تونس ومصر وما يجري في البحرين، تعارض ما يجري في دول أخرى ويندرج تحت مفهوم المؤامرة. وفي الوقت الذي يحتضن فيه النظام السوري حركتي حماس والجهاد، حكم على مواطنيه المنتمين لحركة الإخوان المسلمين بالإعدام ولا فرق بين هذا وذاك، وبنفس الوقت يدعم حزب الله لإيجاد موطئ قدم له في لبنان وللهيمنة على قراره السياسي، وحليف لإيران التي تعيث فسادا طائفيا في العراق. ومن ناحية ثانية وفي مشهد غير مفهوم إلا من باب الحقد والثأر او الانتقام، نرى الأنظمة التي لا تعترف بالديموقراطية ولا مكان لها في قاموسها، تساند شعوبا للخلاص من جلاديها، ولا يمكن إلا ان يكون تنفيذا او رغبة لإرادة خارجية. في جميع الحالات الأنظمة تتآمر على بعضها والضحية الشعوب، لذلك ليس من الغريب ان يستعير النظام السوري الوصف الإسرائيلي للمقاومة الفلسطينية عند انطلاقها، بوصف الثائرين على الظلم والفساد بالقتلة والمخربين. الواقع يقول ان قطار التغيير انطلق، وعلى مايبدو ان إيقافه إن لم يكن مستحيلا بات بعيد المنال حتى بالنسبة للدول التي تدعي ان طريقه غير سالكة ليمرّ فيها، وما هي إلا مسألة وقت حتى نرى الأصنام في العالم العربي وقد تهاوت أمام إرادة الشعوب. ---------------------------------- عن صحيفة "القدس العربى "اللندنية