"ليس لدي الكثير لأقوله الآن, لكن هذا الحدث زلزل قناعاتى كلها وأشعرني أن الجبناء إذا حكموا يدمرون كل شئ: القيم, الأخلاق, النبل, المصالح المشتركة، كل شئ ، نعم كل شئ، و أخيراً يدمرون أنفسهم و أصدقاءهم ، و إلا كيف أفسر هذا السلوك المجنون الذى سلكه هؤلاء الحمقي و أسيادهم الأمريكيون ؟ " ترد هذه العبارة على لسان "بيتر ماكدونالد" العميل البريطانى الذى يأتى إلى الشرق فى مهمة مخابراتية، تهدف إلى محاولة سبق الأميركيين فى بسط النفوذ على هذا البلد المتوسطى الذى يترنح نظام الحكم فيه، وهى ربما تصلح لتعطيك فكرة مبدئية عن أجواء تلك الرواية الفريدة. كيف أستطيع أن أصف الرواية؟ لا يمكن أن أكتفى بالقول إنها رواية قرأتها، وطبعاً لا يصح أن أقول إنها رواية كتبتها، لأن كاتبها واحد من أكبر كتاب الرواية العرب، ربما كان الأصوب أن أقول : إنها رواية كتبتنى، أو على الأقل كتبت ذاتها على جدران وجدانى وعلى نوافذ عقلى. حين سمعت اسم مؤلفها للمرة الأولى كان الاسم مجهولاً لى تماما لدرجة أنى لم أستطع أن أتبين : هل ينتهى بحرف الباء أم حرف الفاء. الرواية هى: "سباق المسافات الطويلة" والمؤلف هو الروائى العربى الكبير عبد الرحمن منيف. وعلى الرغم من أنها ليست فى شهرة روايتيه الأخريين "مدن الملح" ، و"شرق المتوسط"، إلا أنها أفلحت فى أن تقتحم أسوار خبراتى الإنسانية لتوسع لها مكاناً لا يقل تميزاً عن روايات أخرى رائعة مثل "يوميات نائب فى الأرياف" لتوفيق الحكيم، أو "أيام الإنسان السبعة" لعبد الحكيم قاسم، أو "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. سباق المسافات الطويلة هو سباق بين أجهزة المخابرات الغربية المتعددة التى يسعى كل منها لبسط نفوذه –بشكل مباشر أو عبر عملائه- على هذا البلد المتوسطى أو ذاك. سترى على صفحات الرواية ذلك العجوز الذى يترنح هو ذاته وتترنح أركان حكمه، وسترى أطراف اللعبة السياسية الذين يتأهبون لوراثته، والذين يرتبطون جميعاً بالغرب بخيوط علنية أو خفية و تتلوث أيديهم جميعا بعطايا أسيادهم من المخابراتيين الغربيين، وستجد أيضاً أولئك الشبان الذين تدق أيديهم على جدران قلاع القهر مطالبين فى براءة ماء السماء بأن يسود العدل والحرية والكرامة الإنسانية. أذكر الآن كيف أن الرواية أحدثت فى نفسى أثراً شبيها بذلك الأثر الذى تركه كتاب (لعبة الأمم) لمايلز كوبلاند الذى كان يعد قنبلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضى، والذى يجسد حكام الدول النامية كقطع الشطرنج التى يحركها اللاعبون الكبار فى العالم سواء بعلم أولئك الحكام وإرادتهم أو دون علمهم وبغير إرادتهم، إلا أن الرواية تتفوق على الكتاب بسحر الأدب وعمق الرؤية الفلسفية الفريدة، وأعتقد أننا بحاجة لأن نقرأها اليوم أكثر من أى وقت آخر.