لم تفاجئنى أبدًا أحداث المرحلة الأولى من الانتخابات، فقد تحدثتُ كثيرًا لوسائل الإعلام وفى الندوات والمؤتمرات الجماهيرية على مدار الأسابيع والشهور الماضية وأكدت التالى: أن الانتخابات ستكون نزيهة - أن الإسلاميين سيحصلون على المركز الأول وستتراوح أصواتهم بين 40 و60%، وأن المقاعد الباقية سيتقاسمها الليبراليون وفلول الوطنى. وهذا ما حدث تقريبًا. ولكن أهم التوقعات كانت تتعلق بالإقبال الجماهيرى، وذكرتُ أن المشاركة المكثفة للشعب هى التى ستضمن أمن وحسن سير العملية الانتخابية، وليس وجود القوات المسلحة. وإن كان وجودها جيدًا ومكملاً ولا بأس به. الإنجاز الرئيسى للثورة أنها نجحت فى النهاية بعد طول تلكؤ من المجلس العسكرى فى بداية تسلم السلطة ومن دون وثائق دستورية أى من دون شروط عسكرية. ووضعنا فى الممارسة لأول مرة مبدأ السيادة والحكم للشعب. بعد أن غاب عشرات السنين عن الممارسة بعد 1952، وكان مبدأ منقوصًا قبل 1952. فالآن أثبتنا أن هذا الاختراع العجيب الذى يسمى انتخابات عن طريق الصندوق يمكن تطبيقه فى مصر بعد أن طبق بنجاح لدى عشرات الأمم من قبلنا، وأن هذا الاختراع ليس جديدًا تمامًا، بل هو فى الإسلام يسمى بيعة، وشورى. ومن الآن فصاعدًا فلم يعد هناك مجال لحاكم كى يستولى على مصر أو يورثها لأبنائه. والشعب سيقيم حكامه كل 4 أو 5 سنوات. والحكام سيبذلون قصارى جهدهم لإرضاء الشعب إذا كانوا يريدون أن ينتخبوا مرة أخرى. نحن نتحدث عن تهيئة المناخ الصحى لانطلاق مصر من جديد فى طريق الحضارة، فالحكم الاستبدادى الفردى هو أسوأ أنواع نظم الحكم التى تكبت الأرواح وتكتم المبادرات وتقتل الإبداع. فوز الاسلاميين بالمركز الأول ليس مفاجأة لأى أحد، المهم أن يتعود معارضوهم على أنهم - أى الاسلاميون - مواطنون، والأهم أن ينجح الإسلاميون فى الاختبار وسيكون لنا حديث لاحق عن شروط النجاح، ودورنا كإسلاميين جميعًا فى ذلك سواء المشاركون فى البرلمان والحكم أو العاملون خارج هذه الأطر. ومن مزايا نتائج الانتخابات أن فوز الإسلاميين لم يكن كاسحًا وأن التيارات الليبرالية وغير الإسلامية مثلت حتى الآن بأكثرمن 20 %، وثبت أنها إذا ثابرت فى الدعاية والإعلام والتنظيم يمكن أن تحصل على نسب مقدرة، كما أن الإسلاميين ليسوا حزبًا واحدًا وتتعدد بينهم الاجتهادات. إنها تجربة تستحق أن نسعى جميعًا لإنجاحها، وأن نعطيها أكبر فرصة للنجاح بإذن الله. وقد برهنت الانتخابات - ككل انتخابات سابقة - أن المال وحده لا يكفى لانتزاع الأصوات والمقاعد، فرغم أهميته فإن لا بد أن يكون مقترناً بالعدد الكافى من الكوادر والمناصرين المؤيدين والفاهمين لتوجه الحزب المرشح، وأن يكون هذا التوجه مقبولاً من الأغلبية . ولذلك فقد كان اندحار فلول الحزب الوطنى والوفد الذى مال إلى الفلول بأكثر من ميله لليبرالية كان اندحارًا ملحوظًا. وهبطت الفلول إلى المركز الثالث بعد الإسلاميين والليبراليين وبمسافة كبيرة، ولطالما رفضنا تخويفنا بالفلول الذين قيل إنهم سيكتسحون الانتخابات بالمال والبلطجية. ورغم أن الشعب صاحب الفضل الأول فى حالة تأمين الانتخابات، فإننا من حقنا أن نتساءل عن الاختفاء شبه الكلى للبلطجة لمدة يومين، بل لقد أصبح هذا دليلاً على أن البلطجة والفلتان الأمنى يخضعان للتحكم المركزى للمجلس العسكرى حسب الظروف، وهذا ما اتهمناه به من قبل مرارًا، وقلنا إن كثرة الحديث عن الفلتان الأمنى والبلطجة والمقترن بأحداث مفتعلة على الأرض يستهدف أغراضًا سياسية تختلف من وقت لآخر، ويشير لأهمية استمرار الحكم العسكرى أطول فترة ممكنة حتى يتم ترتيب الأوضاع السياسية والدستورية وفقًا لمصالح ورؤية العسكر. وهذا يوصلنا إلى النقطة الحاسمة الآن فى مجرى الثورة، فالمجلس العسكرى على لسان اللواء ممدوح شاهين الذي يعتبرونه خبيرهم القانونى يلقى علينا مسلسلاً من التصريحات أشبه بالدش البارد، وهى تصريحات تستهدف تحويل ما نسميه العرس الديمقراطى الآن إلى مسخرة، فالمجلس العسكرى يقول لنا - من خلال شاهين - إن البرلمان لا قيمة له وهو أشبه بلعب الأطفال عندما يقولون نلعب "بيت"، ويحاولون تقسيم الأرض وكأنها غرف داخل بيت، أما الآن فإن الأمة المصرية العظيمة التى قامت بثورة عظيمة فإنها وفقًا لشاهين ستلعب "برلمان"، وسيدخل النواب ويختارون رئيسًا للمجلس، وسيحمل رئيس المجلس "شاكوشا" وسينقل التليفزيون بعض اللقطات، ولكن المجلس لا يستطيع أن يحاسب الحكومة ولا تستطيع الأغلبية فيه أصلاً أن تشكل الحكومة. ولذلك يحدث هذا الموقف الكوميدى: الشعب يشكل البرلمان وفى اللحظة نفسها المجلس العسكرى يشكل الحكومة (من أحد رموز عهد مبارك)، وأيضًا يشكل مجلسًا استشاريًا!!. ويستند كلام شاهين إلى الإعلان الدستورى وهو لا يدرى أن هذا الإعلان فقد أى أهمية أو قدسية له بممارسات المجلس العسكرى، فقد صدر هذا الإعلان بعد الاستفتاء، أى لم يوافق عليه الشعب. ولا بد أن يكون واضحًا أن المجلس العسكرى ليس هو مجلس الثورة الذى يمكن أن يقبل أى شىء صدر عنه، فهو لا يتمتع بالشرعية الثورية بحكم المنشأ العام للثورة، وبحكم ممارساته المعاندة للثورة فى كل قرار وكل موضوع، حتى إنه لم ينفذ أى شىء مهم إلا بضغط المليونيات. فاللواء شاهين يقارن بين مجلسه ومجلس عبد الناصر وهذا هراء بالمعنى الحرفى للكلمة. فعبد الناصر قام بانقلاب كان يمكن أن يكلفه حياته، أما مجلس اليوم فهو معين من مبارك، وتسلم منه الحكم بنصيحة أمريكية، وهو يتستر عليه بما حوّل محاكمته إلى مهزلة، بل حتى مكان إقامته أصبح مجهولاً. والأهم من كل ذلك أن هذا التستر أدى إلى ضياع عشرات وربما مئات المليارات من الثروة المنهوبة. إننا نطالب المجلس العسكرى بتسليم السلطة فورًا لأول حكومة منتخبة تشكلها الأغلبية فى مجلس الشعب المنتخب. والانتهاء من هذا المسلسل الممل من الشد والجذب، حيث يمكن لهذه الحكومة المنتخبة أن تواصل مهمة متابعة اختيار الجمعية التأسيسية وصياغتها للدستور وانتخاب رئيس للجمهورية، وأن تقتصر مهمة الجيش على الأمن مساعدةً للشرطة. وسأتناول هذا الموضوع بتفصيل أكبر فى مقال تال، ولكن حتى ذلك الحين أقول للمجلس العسكرى لا تفسد عرس الديمقراطية بتصريحات شاهين.