لا الغربة عمرها كانت اغترابًا ولا البعد كان ابتعادًا.. لا القرب كان عشقًا ولا الحضن كان دائمًا دفئًا.. "مين اللى قال إن الوطن بس الحدود... مين اللى قال إن الحب مش ساكن القلوب... مين اللى قال إنى فى يوم كنت بعيد... ده انا كل يوم فى البعد فى حبك بدوب... وكل يوم فى البعد بكسر كل الحدود واقترب منك واعشقك أكثر وأدوب". تلك ليست مجرد كلمات، وشهادتى ليست مجرد شهادة شاهد بقدر ما هى كلمات قلب عاشق للوطن أراد الله أن تحدث كل تلك التطورات فى مصر وهو عنها بعيد بحكم الجغرافيا. وإن كانت الغربة كحالة صعبة فإنها فى تلك اللحظات قاتلة. أن تكون عاشقا ومحبا وترى من تعشقه متألما ومصابا من ناحية فهو شعور لا يوصف، وأن ترى من تتمنى له كل السعادة يبدأ فى شق طريقه نحو الحرية ونحو النور وأنت غير قادر على أن تكون معه فى هذا الطريق هو شعور بحنين قاتل، وأن ترى من يدفع الثمن وأنت بعيد هو ألم ضمير لا يغادرك لحظة... مجرد مشاعر وأحاسيس وقلق وخوف ومشاركة عبر الفضاء الإلكترونى ودعوات وابتهالات وسهر متواصل ودموع ومشاعر فرح تبدو جميعها مظاهر منقوصة بحكم البعد ، وعميقة بحكم العشق.
أتساءل أحيانا هل من الممكن أن أتحدث عما يدور فى مصر عبر المسافات؟ هل يحق لمن لا يشارك على الأرض أن يتحدث عما يحدث؟ أم يكتفى بالمتابعة؟ أحيانا أرغب فعليا فى التوقف عن التعليق على مايحدث ولكن لأن الكلمة هى ما يصلنى بالوطن، ولأنها تعبير عن حب وحرص ورغبة فى الوصول لمصر المطلوبة والمتخيلة والساكنة فى الروح لا أستطيع أن أتوقف أحيانا عن تسجيل الموقف بالكلمة أو التعليق عليه بالكلمة أو انتقاده بالكلمة، أحيانا اتخيل أن البعد رغم صعوبته يمثل فرصة للرؤية من أعلى أو الرؤية الحالمة أحيانا والناقده فى معظم الأحيان، وهو ما فرض نفسه بشدة اليوم مع المشاركة فى الانتخابات عبر التصويت بالبريد وللحرص على الوصول لوضع أفضل وتجاوز ما حدث من أخطاء أو تحسين الأداء وجدت أن النقاش حول المرحلة الأولى من الانتخابات التى شارك فيها المصريون فى الخارج منذ الأمس مسألة شديدة الأهمية ومسئولية علينا جميعا الاهتمام بتسجيلها وتقديمها للجهات المعنية للتفكير فيها والتعامل معها خلال المراحل القادمة، مع ضرورة التأكيد أن الغرض الأساسى ليس النقد للنقد أو التركيز على السلبيات فقط ولكنه محاولة للتركيز على النقاط التى يمكن تصويبها أو تحسينها من أجل مصر.
وبداية فإن شعورى كان مختلطا، فمن ناحية مثلت قضية مشاركة المصريين فى الخارج فى الانتخابات إحدى القضايا الكبرى خلال فترة الثورة، فالمطالب التى رفعت خلال سنوات والتى لم يتم حسمها إلا من خلال معركة قانونية وجهود حقيقية لتأكيد حق المصريين بالخارج في المشاركة تمثل إنجازا حقيقيا للمواطن المصرى قد لا يدرك البعض أهميته فى ظل سيطرة المشهد الداخلى بتعقيداته على غيره من القضايا. ومن جانب آخر فإن توقيت إجراء الانتخابات للمصريين فى الخارج فى المرحلة الأولى يتزامن مع مشهد العنف والدماء وأصوات القنابل المسيلة للدموع وآلام المصابين فى أحداث عنف غير مبررة وغير مقبولة. وأصبح السؤال المهم ما الذى يمكن عمله؟ وما هو الخيار المهم فى تلك المرحلة؟ من جانب وجدت فى مشهد ميادين وشوارع مصر الثائرة ضد العنف مبررا حقيقيا لتركيز كل الجهد في الكشف عن الوجه القبيح للعنف المستخدم، ومحاسبة المسئولين عن حالة تصعيده خلال تلك الأيام دون حل حقيقى، فلم يكن من المقبول التفاوض على مقاعد برلمانية على حساب دم الشهداء ودون احترام المواطن وحقه فى الكرامة والحرية فى الحياة والموت ولهذا كان الحديث على الانتخابات قضية هامشية فى ظل المشهد الذى نراه ونشعر بقسوته وبخطورته أن لم يتم التعامل معه برشادة تعلى المواطن وتعلى المحاسبة والمكاشفة.
تلك الأوضاع تعنى بالنسبة لى أن الانتخابات بالمجمل ليست الأولوية وأن الحديث عن الانتخابات دون توفر الشروط الضرورية لجعلها انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وديمقراطية هو حديث نابع من مصالح ضيقة لبعض الأطراف والفصائل السياسية التى ترى فى الموقف فرصة للحصول على بعض المقاعد وترفض تأجيل الانتخابات حتى لا تواجه بتغيرات أخرى على الأرض. كما أن الوضع الأمنى الضرورى غير متوفر لإجراء الانتخابات بافتراض توافر الرغبة لدى المواطنين فى المشاركة فى الانتخابات فى ظل الوضع الملتهب والقلق.
ولكن مع استمرار مسلسل العنف المتصاعد ومع التأكيد على الاستمرار فى سيناريو الانتخابات أصبح من الضرورى تحديد موقف، فهل من الأفضل الانتصار لفكرة عدم إجراء الانتخابات وبالتالى عدم المشاركة فيها، أم الانتصار لفكرة المسئولية والحقوق وضرورة المشاركة ما دامت الانتخابات لم تؤجل رسميا؟
وكان الجدل حول تلك النقاط أساسيا فى توضيح الموقف، فإن من يصارع العنف ويواجه الموت فى ميادين مصر الثائرة يفعل هذا من أجل حقوق المواطن فى الحرية والكرامة، فعله ويفعله من أجل أن نتحول من نظام لا قيمة فيه للصوت/ للفرد إلى نظام لا يستمر الا بصوت المواطن ورأيه، أنه يفعل هذا من أجل مصر أخرى لا تبيع أبناءها ولا تنساهم. ومن جانب آخر فإنه فعل هذا لأنه يحب مصر كوطن وبيت وسكن وعشق، ومن سعى للحصول على حق المصريين فى الخارج فى المشاركة فى التصويت لم يفعل هذا للحصول على منافع ومكاسب شخصية كما يقول البعض ولكنه فعل هذا لتأكيد حبه للوطن الذى يبقى عشقه مسيطرا رغم المسافات، كما أنه يعبر عن جانب الواجبات أيضا فالمواطنة ليست حقوقا فقط ولكن مسئوليات أيضا. فأن تكون مواطنا حرا يعنى أن تتحقق لك حقوق المواطنة وأن تقدم دور المواطن، أن تحترم وأن تقدم الاحترام والولاء للوطن، أن تحصل على هوية وانتماء وتكون مواطنا صالحا. فى كل الأحوال مثل حق المشاركة فى الانتخابات تأكيد من المواطن المصرى خارج الوطن على حبه وعشقه لمصر وليست مشاهد مشاركة المصريين فى الخارج فى كل ما يمر بمصر وما مر بها خلال أحداث الثورة ببعيد.
كنت أتوقف كثيرا أمام تلك الأصوات التى تتحدث عن المصريين فى الخارج بطريقة مهينة أو متشككة وقائمة على التخوين لعدة أسباب: فالبعض كان ينظر لهم بوصفهم أعداء أو منتفعين يأتون للحصول على منافع منها استغلال أموالهم فى الداخل، والبعض كان يوجه لهم الانتقاد بوصفهم غير معنيين بما يحدث فى مصر ولا يحق لهم المشاركة، والبعض كان ينظر لهم بنظرة أحادية تضع الجميع فى سلة واحدة هى سلة المصريين العاملين فى الخارج والذين ينظر إليهم البعض بوصفهم مجرد بنوك تمويل أو مستثمرين، وهى نظرة دعمها تحرك حكومة رئيس الورزاء الأسبق ورئيس حكومة تصريف الإعمال الحالى عصام شرف بالحديث عن السفر لبعض الدول واللقاء بالمصريين فى الخارج والتعرف على إمكانية مشاركتهم فى تنمية الاقتصاد أو القيام بمشاريع، وهو ما رسخ فكرة التعميم فى التعامل مع المصريين فى الخارج واستحضار صورة المصريين فى الخارج التى تعايش معها النظام المراد أسقاطه لعقود مع تناسى حالة التنوع القائمة فى المصريين فى الخارج وأسباب تواجدهم هناك.
توقفت أمام مداخلة خلال الأحداث الأخيرة على إحدى الفضائيات حين أكدت المتحدثة من داخل مصر على ضرورة عدم السماح للمصريين فى الخارج بالتعليق عما يحدث فى مصر، كان الحديث أقرب لحديث عن أعداء أو غرباء غير معنيين بما يحدث فى وطنهم، لم تجد المتحدثة غضاضة فى أن تؤكد على أنهم لا يعرفون مصر ولا يحق لهم الحديث عنها. أصبحت المواطنة بالنسبة للبعض كروت تمنح وتسحب بسبب الجغرافيا فى تناسى مخل لحقيقة أن الغربة (والاغتراب) لا ترتبط بالجغرافيا من قريب أو بعيد، وأن تلك الرؤية ذاتها القائمة على الإقصاء ليست هى مصر التى نريدها.
استوقفنى أيضا بعدا ضمنيا فى النقاش الدائر حول مشاركة المصريين فى الخارج وهو البعد الطبقى، فمن جانب يتم النظر للمصريين فى الخارج بوصفهم صفوة ولهم توجه انتخابى محدد هو المبرر -من وجهة نظر البعض- لعدم الرغبة فى مشاركتهم وهذا أمر لا أستطيع قبوله لا علميا ولا موضوعيا، بالإضافة إلى طبقية اقتصادية ترى أن المصريين فى الخارج كائنات تتمتع بالراحة والثراء ولا تشعر بمعاناة المصريين العاديين وتعيش حالة اغتراب... تلك الرؤية الى يعبر عنها البعض سواء من المصريين فى الخارج أو فى الداخل بما فيها الجهات الرسمية مسألة شديدة الأهمية وغير موضوعية، كما أنها تقسم مصر مرات ومرات كما هى العادة لعقود على أسس طبقية إما لاعتبارات ثقافية - تعليمية أو مادية، كما أنها تقوم على أساس التعميم المخل الذى يمنعنا من التعرف على أبعاد الصورة والتعامل مع حجم التنوع الثرى فيها. فالمصريون فى الخارج بينهم تنوع كبير فى التعليم وأسباب السفر ودول الإقامة ومدد الإقامة والخبرة وغيرها الكثير والكثير من الأبعاد التى يجب الاهتمام بها حتى نكون قادرين على التواصل معهم وتحقيق مفهوم المواطنة الحقيقية، وحتى لا نظلم حالة التنوع نفسها ونظلم ونهمش بعض المصريين فى الخارج من غير القادرين ماديا أو غير المتعلمين فالمواطنة هى الحكم الذى كان لابد من الاهتمام به فى عملية الإعداد للانتخابات فى الخارج وفى الحوار حول المصريين فى الخارج.
كذلك فإن فكرة تعميم عدم معرفة المصريين فى الخارج بما يحدث فى مصر أو عدم اهتمامهم بما حدث والنظر لاهتمامهم كنتاج للثورة فقط يمثل تبسيطا مخلا لفكرة المواطنة والوطن، وعدم إدراك لاختلاف أسباب السفر فليس كل من يغادر كارها، كما أن المواطنة ليست جغرافيا وكم من مغترب فى الداخل وعاشق فى الخارج، وكم من مستمر بحكم الضرورة وكم من مرتحل بحكم القدر. كم من مواطن فى الداخل يرى فى وجوده نارا وكم من مرتحل يجد فى بعده نارا. فالغربة ليست اغترابا والوجود ليس دوما حبا. وفى النهاية النقطة الأساسية هى المواطنة التى لا تفرق على أساس الجغرافيا ولا على أساس الطبقة وهو ما يجب أن يكون نقطة الانطلاق الأساسية.
ولأن المواطنة وصورة المصريين فى الخارج كانت جزءا من الجدل المهم الذى أبرز كل العناصر السابقة والتى تمثل جزءًا من مشكلة هيكلية فى تعاملنا المصرى مع فكرة المواطنة وترسيخ فكرة الطبقية، فإنه عكس أيضا فكرة فشل الدولة فى إدارة عدد من ملفاتها الأساسية بما فى ذلك ملف المواطنين فى الخارج ففى قلب النقاش الدائر كان من المهم رصد حقيقة أساسية لم تتحرج الخارجية المصرية وبالعموم النظام المصرى المراد إسقاطه فى التأكيد مرارا وتكرارا على حقيقة مخجلة وهى عدم معرفتهم لعدد المصريين فى الخارج. مسألة ظهرت واضحة أثناء أحداث ليبيا عندما جاءت تصريحات وزير الخارجية الأسبق عامة فى حديثها عن عدد المصريين بفارق يقترب من المليون مصرى، وعادت أكدتها العديد من التصريحات عند الإشارة لعدد المصريين فى الخارج على هامش قضية الانتخابات، حيث وصل الفارق فى التقديرات لمليون أو أكثر وهو وضع يتماشى مع نظام همش دور المواطن، وبما أن المواطن فى الداخل مهمش فإنه فى الخارج مهمش سواء أكان 6 ملايين أو 7 ملايين فهو بالنسبة للنظام المراد إسقاطه شيء هامشي وعلينا أن نقر بهذا المعنى الذى تعبر عنه الفكرة.
فى نفس الوقت هو تعبير عن مشكلة مؤسسية تخص مؤسسات الدولة فى مصر والتى شهدت -وبدون استثناء- الكثير من أوجه الخلل فى مهامها الأساسية فى ظل الآليات القائمة سواء فى تركيبها أو قيامها بمهامها أو اختيارها للقائمين بتلك المهام، أو بتهميش أدوارها المفترضة وغيرها من النقاط المهمة.
لكل تلك الاعتبارات كان قرار المشاركة فى الانتخابات جزءا من الدفاع عن حق المصريين بعمومهم كمواطنين فى المشاركة فى رسم سياسة بلدهم، وحق المصريين فى الخارج أن يكونوا جزءا من الصورة لأنهم هكذا بالفعل، حق يدشن ليس لليوم فقط أو لتلك الانتخابات بذاتها ولكن للمستقبل ولكل انتخابات قادمة خاصة وأن تلك الانتخابات تمثل المرة الأولى وخاصة أن فكرة العدد لازالت حاكمة رغم أن المواطن وحقوقه ليست بعدده ولكن بفكرة الحق ودور الدولة ولنا فى هذا عودة.