يعتبر الشاعر الويلزي آر. إس. توماس واحدا من بين أهمّ الشعراء الذين كتبوا باللغة الإنجليزية في القرن الماضي. وبحس الشاعر والخبير، المدرب على الترجمة، قام عبد الكريم كاصد بترجمة مختارات شعرية، من دواوين توماس، وأصدرتها حديثا مؤسسة " أروقة للدراسات والترجمة والنشر" بالقاهرة، تحت عنوان "ربة الشعر الآن هي الكمبيوتر". ولد "توماس" في كاردف سنة 1913، ورُسّم كاهناً سنة 1937، وتقاعد سنة 1978 مشدّداً على عزلته التي فرضها على نفسه قبل تقاعده بزمنٍ طويل، ساخراً من عادات عصره، ولاسيما في قصائده الأخيرة التي نشرتها مجلة "أجندا"، غير مكترثٍ، بمظاهر الاحتفاء المكرسة له ولا بالجوائز العديدة التي منحت له، أو بما يُعلن، بين فترة وأخرى، عن ترشيحه إلى جائزة نوبل. كان لعمل "توماس" قسًّا في المناطق النائية المعزولة في ويلز أثرٌ كبير في حياته وشعره معًا. فلقد اضطرّه عمله وسط الفلاحين إلى ضرورة تعلم لغته الويلزية التي لم يتسنّ له تعلمها في طفولته؛ إذ نشأ في وسط إنجليزيّ، وقد بذل في تعلمها جهدًا كبيرًا امتدّ سنواتٍ إلى أن تمكّن من القراءة والكتابة بها. ومن بين أعماله التي أصدرها باللغة الويلزية كتاباته عن سيرته الذاتية، ولعلّ أهمّها كتابه الموسوم ب"نيب" أي "لا أحد". لكنّه واصل كتابة الشعر باللغة الإنجليزية، فهو يرى،على الرغم من حبه للغته الويلزية التي أصبحت أداته اليومية التي يتواصل بها مع الناس، أنّ الشاعر لا يمكنه أن يكتب شعرًا باللغة التي لم يتعلمها إلاّ في سنّ متأخرة، لما لذلك من علاقة بالطفولة والأمّ. ومشكلة اللغة هذه ليست خاصة بويلز وحدها، فهي قائمة في أيرلندا واسكتلندا/ إلاّ إنّ التقاليد الشعرية في ويلز كما يبدو، وكما يشير عدد من الباحثين، هي أرسخ من التقاليد الشعرية في اللغتين السلتيتين الأخريين، فهي لا تزال حية وإن كانت محصورة في بقعة معينة لم يتح لها المجال لكي تمتد خارج حدودها. ومن النقاد أيضا من يشير إلى هذه الإشكالية، وعلى رأسهم الناقد الفرنسي الجزائري جاك دريدا، حيث يقول " نعم أنا لا أمتلك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي". هنا يتأرجح دريدا بين استحالة التكلّم إلاّ بلغة واحدة، واستحالة أن نتكلم لغةً واحدة فقط، ما يفسح الطريق أمام وقوع المتكلّم، الضيف في مأزق تحديد معنى الانتماء والهوية والمواطنة والثقافة. ويرى كاصد أنه من الصعب نعت الشاعر بالعزلة وهو يحتفي بالحياة من حوله، بشرًا وأماكن وموجوداتٍ، رغم كلّ ما يحيطه من مظاهر عزلةٍ، لاسيّما أن رؤيته في شعره اللاحق اتسعت لتشمل موضوعاتٍ وأفكارًا باعثهما الروح والعقل: ألم الروح، و شكوك العقل. هذا التزاوج هو الذي صهر النظرة القومية المحدودة بالنظرة الإنسانية الشاملة وما أعقبهما من طروحات أخرى:علاقة الإنسان بالإله، السماء بالأرض، الآلة بالإنسان، الإنسان بالإنسان. ولم تكن هذه الطروحات مجرّد قلق روح شاعر تتحرك صوب جوهر الإنسان، بل هي أيضاً نتيجة معرفة مؤسّسَة منذ زمن بعيد. ويذكر توماس أيضاً في كتابه "لا أحد" أنه أبدى اهتمامًا كبيرًا بتاريخ ويلز ومشاكلها السياسية والاجتماعية، وتأمّل طويلا في وضعه كإنسان ويلزيّ كان عليه أن يستجيب ويكتب باللغة الإنجليزية بسبب نشأته، بالإضافة إلى تأثّره بكتاب وشعراء إيرلنديين واسكتلنديين وويلزيين سبقوه ووصفوا حياة شعوبهم القاسية البدائية، كييتس وسنج وغيرهما. تحتوي المختارات خمسة أقسام، يضم القسم الأول نماذج من قصائده عن طفولته والطفولة عمومًا وما يتعلق بها من مراحل حياتية أخرى، ويضم القسم الثاني تأملاته الأرحب ومراثيه التي كتبها بعد رحيل زوجته الأولى، وفي القسم الثالث ثمة نماذج من قصائده التي أثارتها لوحات معينة لفنانين كبار نُشرت معها في مجموعته "بين هنا والآن"، وفي القسم الرابع نماذج هي أقرب إلى صخب الواقع بما فيه من شخوص وأحداث ومواقف، أما القسم الخامس والأخير فيضم قصائده الست المنشورة في مجلة "أجندا". ومن أجواء الديوان، نص "عطايا"، يقول فيه: عن أبي ورثت القلب القويّ والمعدة العليلة عن أمّي الخوف ومن وطني الحزين الخجل!!
لزوجتي أهب كل ما ادخرتهُ إلا الحبّ فهو ليس لي لأعطيهِ ولابني الوحيد أهبُ الجوع!!