إن أمر التكفبر لأهل الإيمان وأتباع الإسلام، خطر عظيم، وشر جسيم، يسير الفتن، ويغتال الأمن والأمان، والسلم والسلام. وكم عانت الأمة المسلمة منه من ظهور غلاة "الخوارج"، والتعصب والتمذهب والتحزب، وها هى فى عالم متغير تعانى أكثر وأكثر، فاتهامات تكفيرية بين "السنة"و"الشيعة"، وبين "سنة وسنة"وبين شيعة وسنة وإباضية، أمر فشا واستعر، وصارت البواغث لا تفرق بين "أصل" و "فرع" أو ما هى قطعى وظنى سواء فى الورود أو الدلالة. ومن مضار كارثة التكفير ظهور جماعات العنف المسلح كنتيجة للعنف الفكرى! حقيقة التكفير وحكمه معنى التكفير لغة واصطلاحًا معنى التكفير: تفعيل من الكفر وهو مصدر كُفْر، يقال كفّره تكفيرًا، ومن معانى التكفير فى اللغة: التغطية والستر وهو أصل الباب. وأيضا يقال: التفكير فى المحارب: إذا تكفر فى سلاحه، والتكفير أيضًا: أن ينحنى الإنسان ويطأطئ رأسه قريبًا من الركوع، كما يفعل من يريد تعظيم صاحبه، ومنه حديث أبى معشر: (أنه كان يكره التكفير فى الصلاة). أى: الانحناء الكثير فى حال القيام. والكفر فى الشرع : نقيض الإيمان وهو الجحود، ومنه قوله تعالى : " إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ " (القصص:48) أى جاحدون. وهو بهذا لا يخرج عن معناه اللغوى، لأن الكافر ذو كفر، أى ذو تغطية لقلبه بكفره، قال صاحب الدر المختار: الكفر شرعًا: تكذيبه صلى الله عليه وسلم فى شئ مما جاء به من الدين بالضرورة. وتكفير الذنوب محوها بفعل الحسنات ونحوه، قال الله تعالى : "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" (هود: 114). والتكفيرعن اليمين: فعل ما يجب الحنث فيها. معنى التكفير اصطلاحًا: نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر. شرح التعريف: التكفير (نسبة) بكسر النون ومعناها هنا العزو والإلحاق، (أحد) بالتنكير: اسم لكل من يصلح أن يخاطب، يقال: ليس فى الدار أحد (يستوى فيه الفرد والمفردة وفروعها) يقول الله تعالى: "لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ" (الأحزاب: 32)، "مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ" (الأحزاب: 40)، (من أهل القبلة) من "إما" بيانية للمنسوب إليه أو بعضية أى فرد من أفراد أهل القبلة، والقبلة بكسر القاف: الجهة التى نتجه إليها فى صلاتنا، وقبلة المسلمين – وهى المرادة هنا – الكعبة المشرفة، قال الله تعالى: "فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا" (البقرة: 144)، واستقبالها فى الصلاة وغيرها علامة صريحة على الإسلام لقول النبى صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذى له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله فى ذمته). ألفاظ ذات صلة أ- التشريك: مصدر الشرك، يقال: يقال شركت بينهما فى المال تشريكًا، وشرك النعل: جعل لها شراكًا. وشرعا: أن يجعل لله شريكا فى ملكه أو ربوبيته، قال الله تعالى: "يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان: 13). والكفر أعم من الشرك فهو أحد أفراده. ب- التفسيق: وهو تفعيل من الفسق ومعناه فى اللغة: الخروج عن الأمر، ويقال: أصله خروج الشئ عن الشئ على وجه الفساد، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، وكأن الفأرة إنما سميت فويسقة لخروجها من جحرها على الناس. وهو شرعا: العصيان والترك لأمر الله تعالى والخروج عن طريق الحق، ومنه قوله تعالى: "فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ" (الكهف: 50) أى: خرج عن طاعة ربه. وقد يكون الفسق شركًا أو كفرًا أو إثمًا. الحكم التكليفى للتكفير نظرًا لتعلق التكفير بمسلم فإن حكمه على نوعين: الأول: التحريم وهذا فى المسلم الباقى على إسلامه لأن الأصل بقاء المسلم على إسلامه حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك لنصوص شرعية منها: أ- قول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا" (النساء: 94). وجه الدلالة: دلت الآية الكريمة على أن الإنسان إذا أعلن إسلامه بأى إعلان شرعى معتبر كقوله (السلام عليكم)؛ لأن سلامه بتحية الإسلام مؤذن بطاعته وانقياده فيقبل إسلامه وبالتالى يكون معصوم الدم والعرض والمال ويحرم تكفيره؛ ولأن الأحكام تناط بالمظان والظواهر لا على القطع واطلاع السرائر. ب- قول النبى صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا". وجه الدلالة: إن فعل الإنسان للصلاة الشرعية واستقباله الكعبة المشرفة ومشاركة المسلمين فى ذبائحهم أمارات على إسلامه فلا يحكم بنقيضه متى عمل بها وحافظ عليها وغيرها مما هو ثابت شرعًا. ج- خبر: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه". د- خبر: "من دعا رجلا بالكفر أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه". وجه الدلالة: يجب اجتناب تكفير المسلم والفرار منه لخطره العظيم. ثانيًا: الوجوب، وذلك فى حق المسلم المكلف المختار عند صدور ما هو مكفر منه، من له صلاحية إصدار الحكم كالقضاء والإفتاء لمصلحة شرعية معتبرة تترتب على الحكم بتكفيره. واتفق الفقهاء على أنه لا يفتى بردة المسلم إذا قال قولا أوفعل فعلا يحتمل كفره وغيره. والأصل فيما سبق: نصوص وأدلة شرعية منها: أولا: القرآن الكريم: أ- " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ " (الحجرات: 12). وجه الدلالة: إن محل التحذير والنهى إنما عن تهمة لا سبب ليها كمن أتهم بالفاحشة أو شرب الخمر ولم يظهر عليه ذلك فتكفير المسلم أولى وأدعى فى التحذير والنهى متى فقد اليقين. ب- "وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ" (النحل: 116). وجه الدلالة: نهى الله تعالى عن اختلاق الكذب ونسبته إليه بدعوى التحليل والتحريم وهذا وإن كان فى الأمور الفروعية الظاهرة فالتكفير الذى يمس أصول الدين من باب أولى. ثانيًا: من السنة النبوية أ- ما روى عن جابر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، ثم قرأ "إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ" (الغاشية: 21،22) وجه الدلالة: الأحكام الفقهية تبنى الظواهر والله تعالى يتولى السرائر، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم نفسه بالأصالة وعرضه وماله بالتيقن فيحرم استباحته بل ويحرم تكفيره. ب- عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال : بعثنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى الحرفة فصبحنا القوم على مياهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكف عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال لى : "يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله"، قلت يا رسول الله إنما كان متعوذا فقال: "أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟!" فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم اكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
الدكتور أحمد محمود كريمة أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر