ترى أين تتموضع الأسرة السعودية وأين تقف في خضم تفاعل معطيات الداخل مع مؤثرات الخارج؟ وهل هناك نقطة توازن قائمة على حسابات موضوعية تستطيع من مكانها ضبط إيقاع تفاعلات الداخل مع ضغوط ومعطيات الخارج، بحيث تؤمن لنفسها مكانة راسخة ومستقرة وأفقاً سياسياً مفتوحاً، تستطيع بهما الاستمرار في حكم البلاد بعيداً عن احتمالات توالد الأزمات والمنغصات؟. للإجابة على هذين السؤالين دعونا ننظر في الآتي: على صعيد الجبهة الداخلية السعودية يمكن أن نقرأ تفاعل عدة عوامل تعمل في اتجاهات متعارضة ومتضاربة، فهناك وضع اقتصادي مريح للغالبية الساحقة من السكان، وهناك طبقة وسطى عريضة يشكل سكونها سر الاستقرار في السعودية حتى هذه اللحظة، فهذه الطبقة التي تشمل تجار التجزئة وأصحاب المهن الحرة وعموم موظفي الدولة من مدنيين وعسكريين، لا تزال من الناحية الثقافية والذهنية تحت هيمنة سلطة رجال الدين المتحالفة مع الأسرة الحاكمة، والتي تحرم تحريماً قاطعاً الثورة تحت مسمى عدم جواز الخروج على من تسميه بولي الأمر، فالقيم العصرية والمدنية والحقوقية، لا تزال تحتل موقعا هامشياً في الذهنية العامة لهذه الطبقة. وعليه فإن هذه الطبقة لا تزال بثقافتها وذهنيتها المسيطر عليها تشكل ركيزة مهمة لاستمرار حكم الأسرة السعودية، بالطريقة التي هى عليها اليوم. ولكن بالمقابل هناك ضغوط متزايدة على هذه الطبقة من اتجاهين متعارضين، سوف يؤديان مع مرور الوقت إلى بداية بروز تشققات وتصدعات في بنيانها، ففي قمة الهرم الاجتماعي السعودي هناك نخبة آخذة في التوسع تلقت تعليمها في أفضل الجامعات الغربية، وهى متشبعة بقيم العصر وبثقافته، وتنظر نظرة دونية إلى مجمل القيم الدينية بتفسيرها الرجعي، التي تكبل المجتمع وتجعل منه فريسة سهلة وغير واعية لهيمنة تحالف الأسرة الحاكمة مع رجال الدين، وتحول بينه وبين تمثل القيم الإنسانية التي تساوي بين الحاكم والمحكوم، وتجعل من الجميع مواطنين متساوين تحت طائلة القانون بصفتهم أعضاء في مجتمع إنساني لا فروق ولا تمييز بين أعضائه. وفي قاعدة الهرم الاجتماعي هناك طبقة مهمشة تتمثل في جيوش العاطلين عن العمل تقودها جموع من خريجي الجامعات النظرية المسلحين بالوعي الحقوقي والمجردين والمحرومين من أية حقوق في الوقت نفسه، حيث يجد الشاب من هؤلاء نفسه عاطلاً عن العمل بعد سنوات من الكد والجهد في أروقة المدارس والجامعات المشبعة بالطموحات الكاذبة والمضللة عن طبيعة المستقبل الزاهر لخريجي هذه المؤسسات، بينما أفراد الأسرة المالكة العريضة يغترفون من موازنة الدولة بكلتي يديهم، ويبوؤون أرفع المناصب في جهاز الدولة كي يسخروها لجمع وجني المليارات، لا لأهليتهم وإنما لمجرد انتمائهم لأسرة معينة، ينظر أفرادها إلى الشعب نظرة المالك إلى ملكه. والمحصلة هنا هى أن الطبقة الوسطى ركيزة حكم الأسرة المهيمن عليها ثقافياً، وعقليا،ً وذهنياً بسطوة رجال الدين ومنظمتهم النصوصية تتعرض للتآكل من أعلى ومن أسفل، فإلى أي مدى يمكن أن تقوى الصمود؟ وإذا ما انتقلنا إلى رصد وتحليل مؤثرات الخارج فسنلاحظ بجلاء وبدون كبير عناء أن ثورات الربيع العربي قد أصابت الدور الإقليمي والدولي للدولة السعودية، ومكانة الأسرة السعودية في مقتل لا أظن أن بوسعها أن تتشافى منه أبداً، حيث إن الأسرة السعودية راهنت وتراهن دوماً بمنزع رفضها للتغيير على الحصان الخاسر، ففي تونس استضافت زين بن العادين بن علي، فوجدت نفسها في حالة مواجهة وعداء مع عموم الشعب التونسي، وفي مصر حاولت جاهدة إجهاض الثورة والتآمر عليها كي تنقذ نظام حليفها الفاسد محمد حسني مبارك، فوجدت نفسها أمام غضبة 80 مليون مواطن مصري، سحقوا حليفها ومعه مؤامرات الأسرة السعودية تحت أقدامهم وزجوا بمبارك مع كافة أركان نظامه خلف القضبان، وحولوا المحاولات السعودية إلى مجرد أحلام لا صلة لها بالواقع. وفي اليمن أوكل إليها الحليف الأمريكي والمجتمع الدولي ملف الثورة اليمنية فأخذت تحيك الدسائس والمؤامرات عبر المبادرة الخليجية لإطالة حكم حليفها صالح، فأخفقت في جمع أطراف الصراع على طاولة حل الأزمة ونقل السلطة والرهان على البديل الموضوعي للنظام باعتبار ذلك أمرا لا بديل عنه، وبالتالي فوتت على نفسها فرصة ذهبية تستطيع عبرها استعادة دورها ومكانتها الدولية والإقليمية، مما دفع بالمجتمع الدولي إلى سحب الملف اليمني من يد الأسرة السعودية والدفع به إلى ساحة مجلس الأمن، إن الجارة السعودية لم تخسر بخسارة الملف اليمني مكانتها الدولية والإقليمية وإنما خسرت معهما ثقة المجتمع الدولي وإمكانية الرهان عليها مستقبلاً في التعاطي مع أي من الملفات الإقليمية، فأصبحت بلا دور تقريباً. وإن بقي في دولة صغيرة مثل البحرين ما يمكن الرهان عليه، إلا أنه حسب أغلب المؤشرات رهان ملغوم، فالمجتمع البحريني في حالة من الاحتقان الآخذة في التزايد، وانفجاره مسألة حتمية وإن تأجلت بفعل التدخل السعودي لبعض الوقت. ولا أرى أن بإمكان الأسرة السعودية إنقاذ العرش الهاشمي في الأردن، فالعرش هناك مخير بين خيارين كلاهما أشد مرارة من الآخر للأسرة السعودية، فإما أن يقدم الملك الأردني على إجراء إصلاحات حقيقية وجذرية تحد من سلطاته وتدفع بالبلاد في طريق الملكية الدستورية، أو أن يتصلب فيغامر بالعرش الهاشمي ويلحقه ببقية الأنظمة العربية التي سقطت أو التي هي في طريقها إلى السقوط. وعليه أعتقد أن الأسرة السعودية لا تدير دفة الحكم في الدولة السعودية انطلاقاً من سياسة ذات ركيزة راسخة وموضوعية، تمكنها من الركون إلى قاعدتها والتعامل مع الأحداث والمستجدات انطلاقاً من رؤية واضحة تتسم بالمرونة، وإنما تنطلق من سياسة وقائية قائمة على محاولة تثبيط وتأخير وصول أمواج التغيير إلى الرياض، وهى سياسة عمياء ستقود حتماً ولو بعد حين الأسرة السعودية وربما الدولة السعودية إلى حافة الهاوية، وهو ما لا نتمناه لأشقائنا وإخواننا في السعودية، الذين قد يدفعون ثمن تخاذلهم في إحداث التغيير في الوقت المناسب، فالكل يدرك بأن النظام السعودي غير قابل للإصلاح، فقد رد الملك على المطالب الإصلاحية التي تقدم ما يزيد على عشرة ألاف سعودي، عقب الثورة المصرية والتي تطالب بفصل رئاسة الحكومة عن رئاسة الدولة، وإخضاع الحكومة لمجلس شورى منتخب، بزيادة في المرتبات، والأجور، والمكافئات، ودمج 60ألف عاطل عن العمل في المؤسسة الأمنية، فالنظام السعودي يفترض في الإنسان مجرد حيوان عليه العيش في ظل الهراوة، طالما أن مالكه يستطيع أن يؤمن له المأكل والمشرب. وفي الأخير على الجميع أن يفهم أنني لا أحمل موقفاً معيناً تجاه أسرة بعينها أو نظام بعينه من هذه الأنظمة المتهالكة، لإدراكي أولاً أنها نتاج واقعنا العربي الاجتماعي والثقافي والاقتصادي بكل أمراضه وتشوهاته، ولوعيي ثانياً، القائم على قرائتي لقوانين التطور التاريخي للمجتمع الإنساني ولمعطيات الواقع، بأن هذه الأنظمة جميعاً وبدون استثناء هى في طريقها إلى الزوال، وكلما أفعله هو محاولة قراءة معطيات الواقع المحلي والعربي بمهنية وبموضوعية ما وسعني إلى ذلك سبيلاً، بعيداً عن أية قناعات أو مواقف أو أحكام مسبقة، كي أساهم مع غيري في صناعة وعي حقيقي وموضوعي بواقعنا المحلي والعربي، يمكننا من تقييم مشاكلنا ووضعها في حجمها الحقيقي، كي نتمكن من التعامل معها بواقعية، والتنبؤ بتحولاتها ومخاطرها حتى لا تفاجئنا الأحداث فتُسَيّرنا بدلاً من أن نسيرها. ----------------------------- عن صحيفة " الوسط " اليمنية