كلمة "الفُلُول" معجميًا، معناها كسور في حدود السُّيوف (أي أطرافها الرقيقة الحادَّة) ومعناها (المنهزمون) أيضًا. المفرد فَلٌّ (بفتح الفاء لا بكسرها كما ذاع وشاع)! في الحقيقة لم يكن للكلمة أهمية عند المصريين ولا كانت ضمن مفردات أيامهم قبل جمعة الحادي عشر من فبراير لهذا العام الطويل الطويل الطويل! في تلك الجمعة أعلن "عمر سليمان" تخلِّي "حسني مبارك" عن السلطة وانتقال دفَّة الحكم إلى القوات المسلحة، ومن حينها بدأت الكلمة (الغريبة على قاموسنا المصري) في الظهور والانتشار، ليس لها عند بني وطني، سوى معنى واحد: بقايا نظام الرئيس المخلوع! كأن معناها عند الناس كمعناها المعجمي تمامًا؛ فأسلحة الأذناب انكسرت ماديًا ومعنويًا، برحيل كبيرهم الذي علَّمهم الفساد، وصاروا منهزمين! "الفلول" أكثر كلمة يسمعها المصريون الآن... في الشَّوارع... والبيوت... وعلى شاشة التليفزيون... وفي النقابات... والمقاهي... ودور العبادة... وكل الأمكنة... بل لقد صبغوها بصبغتهم كالعادة؛ فإذا أرادوا طعن أحد في ذمته أو شرفه أو ضميره وصفوه بأنه واحد من "الفلول" وهم يتغامزون! كان "مبارك" رئيسًا للحزب الوطني المنحل، وكان أكثر "فلول اليوم" هم معاونوه وقيادات حزبه وأعضاء الحزب العاملين؛ فليس عجيبًا بعدها أن تتركز الكلمة في الإشارة إلى هؤلاء بما قد يفوق غيرهم ممن اتصلوا بالحكم الساقط بشكل أو بآخر! فقد انتفعوا بوجودهم بالقرب من رئيس الحزب الذي كان رئيسًا للدولة في الوقت نفسه انتفاعًا عظيمًا حتى لو لم يقصدوا ذلك (!) وربما كان يكفي أن تعلن كونك "ابن الحزب" ليفتح لك المرتعشون الأبواب والخزائن (خصوصًا لو كنت قريبًا أو مقرَّبًا) تدخل من أي باب شئت وتأخذ من أية خزنة أردت! "الفلول" الآن وأرجو أن أكون وُفِّقت في عرض حالهم المشين بلا إطناب، أوَّل من سارع لتقديم الأوراق للتسابق على مقاعد مجلسي الشعب والشورى لما بعد ثورة يناير، وهو الوضع الذي يدفعك دفعًا لسؤال واحد بسيط ومركَّب في آن: أما لهذا الشَّرَه من آخر؟! ( الشَّرَه، لغويًا، هو اشتداد الحرص على الشيء والاشتهاء له)! قلنا إن هؤلاء بحكم انضوائهم إلى لواء "مبارك" نالوا من المكاسب والأرباح ما نالوه بينما أغلبية الشَّعب البائس كانت لا تجد مالاً لعلاج ولا طعامًا لسدِّ جوع ولا وظائف لأبنائها وقد تخرجوا من التعليم، بتفاوت درجاته، وجاوزت أعمارهم الثلاثين وأحيانًا الأربعين...! لا حدَّ لشره الإنسان عمومًا إذا رغب في شيء مّا؛ فكيف بشره السِّياسيين إذا رغبوا في سلطة تحكم وتتحكَّم لا سيما وهى ، أي السلطة، طموحهم الأعلى المستمر؟! منذ البداية كان يجب على المجلس العسكري الذي يدير البلاد ويدبِّر أمورها حاليًا أن ينتبه لخطورة الأمر؛ فعودة هؤلاء، لو، لا قدَّر الله، عادوا إلى المجلسين اللذين تحولا بهم إلى غابتي صراع للضَّواري، تعني عودة ذي الخطيئة لاستئناف خطيئته بعد أن كان ذهب إلى الجحيم، ليس بشحمه ولحمه طبعًا؛ فالزَّمن جاوز هياكلهم تمامًا لكن بمعناه القبيح ولا فرق طبعًا! لكن لا المجلس العسكري كان واضحًا وحازمًا بشأن حرمانهم من الحياة السياسية القادمة وهو المجلس الذي تحيط بجملة أدائه، منذ تولَّىه المسؤولية، علامات استفهام نعرفها ومن فوقها أخرى لا نعرفها! ولا الحكومة استطاعت أن تقول فيهم كلمة حق لا تبالي بعدها بما يحدث وهي الحكومة الضعيفة التي لم تكن تليق بثورة من الأساس! وعليه نزل "الفلول" مجدَّدًا ساحة الانتخابات، نزلوا، وهم الأكثر احترافًا والأدرى بمفاتيح اللعبة القذرة: لعبة الفوز بلا استحقاق والانتصار على الرغم من شروق الهزيمة! وفي يد كل واحد منهم ألف بيضة وألف حجر! لكن "لماذا سُمِح لهم أصلا بخوض التجربة (حتى هذه اللحظة لا مانع) بعد ثورة كان من أكبر أسباب قيامها ظلمهم وظلامهم ومن أكبر أهدافها أن يشرق العدل بغروب شموسهم الكاذبة"؟! أنا وأنت نسأل ولا نكاد نسمع إجابة شافية على السؤال كما لا نكاد في الحقيقة نسمع إجابة شافية على أي سؤال يتعلَّق بمصر ومستقبلها بعد ثورة عبقرية دفع الشباب والشعب ثمن إنجاحها غاليًا، ولا يزالون، من دمائهم وأمانهم الشخصي وأمان ذويهم...! إن رجال الإدارة الحالية للدولة حتى لو سمحوا بسنّ قوانين تحجِّم جماعات المنتفعين من الحكم البائد وتكبِّلها، فبأساليبهم الملتوية، أي من يديرون الدولة حاليًا، لا يجعلون هذه القوانين فاعلة، ولو خشوا الرقابة الشعبية وجعلوها كذلك، قالوا لنا، كما لو كان تهديدًا: آل الأمر كلُّه إلى يد القضاء لو شاء أكَّد المنع ولو شاء قضى بالمنح! ومعلوم أن القضاء في النِّهاية، مع كل التقدير لمقامه الرفيع، لم يزل بأيديهم بشهادة المتمردين على أوضاعه والداعين إلى استقلاله من أبنائه الشرفاء الكرام حتى ساعتنا هذه! سبحان الله! كأننا لسنا في ظلال حدث ثوري جلل له شرعية هي التي أوصلت العسكر، مهما ادَّعوا غير ذلك، إلى "الكرسي العظيم" بمصر المحروسة وما كانوا بمثله حالمين! ولا حول ولا قوة إلا بالله! أخيرًا، يحبِّذ المصريون "الفول"... يحبِّذونه... هو طعامهم الرخيص الأثير... وهم يأكلونه في الصباح وفي المساء وفي كل وقت... ويحبُّ المصريون "زهر الفُلِّ"... يحبُّونه... هو لقب ثورتهم الينايرية المجيدة... وهم يبيعونه للعشاق على كورنيش النيل... ومن حاصل جمع ما يحبِّذونه ويحبُّونه (الفول + الفل) كأنما برزت لهم الكلمة المضحكة العجيبة الملعونة... "الفلول"... يا للبؤس! ------------------------------ * شاعر وكاتب مصري [email protected]