ويل للعرب من شرّ قد اقترب. وويل لهم من إمارة الصبيان يحكمون فيهم بالهوى، ويُقتلون بالغضب» حكيم عربي هل تأخر المسيحيون في البحث عن دورهم في «الربيع العربي» الذي دخل خريفه؟ بل، هل لهم دور في هذا الربيع الذي أقلق كثيرين منهم، وأيقظ في نفوسهم الكثير من الهواجس، وفي مقدمهم البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، الذي لا تزال تتردد في معظم الأوساط اللبنانية والعربية تداعيات رحلته الفرنسية وما أسرّ به إلى الرئيس نيكولا ساركوزي حول الانتفاضات التي يشهدها عدد من الدول العربية، وتؤدي، كما في تونس ومصر وليبيا، إلى إسقاط ديكتاتوريات. ذلك ان المسيحيين يخشون ان يسيطر على السلطة «الجديدة» متشددون إسلاميون، فيدفع المسيحيون الثمن، تارة اعتداءات على أماكن العبادة، وطوراً نزوحاً وتهجيراً، كما حصل في العراق في السنوات الأخيرة، فضلاً عن الخوف من ان يكون هناك مخطط خارجي لتفتيت الشرق الأوسط وتقسيمه دولاً مذهبية تخدم المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين، لا مكان فيها لأصحاب الأرض والمقدسات، سواء أكانوا مسيحيين أم مسلمين. وحاول شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب تهدئة الخائفين بالقول «ان المسيحيين في المشرق العربي جزء من النسيج الوطني، ولا تفرقة بين مسلم ومسيحي في دول المشرق العربي، وان هناك حالة من التسامح والتعايش بين الجانبين». ويبدو ان الكلمة المفتاح في إمكان قيام المسيحيين بدور في «الربيع العربي»، هي المساهمة في إعادة حياكة النسيج الاجتماعي العربي عموماً، واللبناني خصوصاً، وهذا ما أشار إليه البطريرك الماروني في زيارته الجنوبية أخيراً حين ركّز على ان همّه هو «لم الشمل»، أي شمل جميع اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، وليس المسيحيين فحسب، ثم «إعادة بناء نسيج لبنان الاجتماعي»، إذ من دونه لا مجال لترجمة شعاره الحبري «شركة ومحبة»، مشدداً على ضرورة إحلال المحبة بين اللبنانيين مكان التنابذ والتباغض والتحريض الطائفي، والمذهبي، ورفض الآخر، وذلك تأكيداً لما جاء في القرآن الكريم: «من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين». وكانت الهواجس التي أبداها الراعي أمام الفرنسيين قد طُرِحت في السينودس الذي عقد في الفاتيكان في تشرين الأول من العام الماضي من أجل البحث في مستقبل المسيحيين في الشرق. وكان مقرراً ان يصارح الراعي بها كذلك الأميركيين بصفتهم اللاعبين الدوليين الرئيسيين في المنطقة وحماة إسرائيل على حساب المسيحيين والمسلمين، لو أتيح له مجال مقابلة الرئيس الأميركي باراك أوباما إبان رحلته الراعوية إلى الولاياتالمتحدة التي بدأت مطلع هذا الأسبوع، والتي أسقط إمكان اللقاء مع أوباما من برنامجها بعدما أبدى المسؤولون الأميركيون امتعاضاً واضحاً من موقف البطريرك من سلاح «حزب الله» والوضع في سوريا. وكان السينودس عبّر عن قلقه من صعود الحركات الأصولية، وتزايد الدعوات السلفية والتكفيرية وتوسّع نفوذها في بعض الدول مما يوقع «الظلم على المسيحيين، كما يصيب إخوانهم المسلمين المناهضين للحركات المتطرفة». لذلك، هو دعا المسيحيين والمسلمين إلى التعاون و«الترويج للقيم الروحية والثقافية التي تجمع البشر وتنبذ العنف على إشكاله». وظهر إدراك من جانب المسلمين الذين شاركوا في هذا الحدث المسيحي بامتياز، بأن ثمة من «يحاول تمزيق نسيج مجتمعاتنا الوطنية، ومحاولة تفكيكها، وسحب خيوط نسيجها المتشابك الذي عرفته وعرفت به منذ قرون عدة». وعبّر عن وجهة النظر هذه في السينودس الباحث اللبناني محمد السماك، الأمين العام لمؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي. وأكد ان هذا الشرق «لن يكون شرقاً من دون العيش المشترك الإسلامي المسيحي الذي أرسى قواعده الأولى النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، في عهده إلى نصارى نجران». وهكذا، تبدو الصورة واضحة أمام الذين «استفزهم» البطريرك الماروني بمواقفه الوطنية المتقدمة على مواقف سلفه البطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، فتداعوا إلى لقاء موسّع سيعقد في 23 تشرين الأول الجاري في دير سيدة الجبل في فتقا في كسروان للبحث في «دور المسيحيين اللبنانيين في الربيع العربي». ويُفترض ان ينطلق اللقاء من روحية السينودس من أجل مسيحيي الشرق الذي رفض الحديث عن «أقلية مسيحية»، مؤكداً ان «المسيحيين جزء لا يتجزأ من الأكثرية العربية» بمكوناتها الدينية والاثنية المختلفة، وهي أصل الشرق وليست دخيلة عليه. ومن غريب المصادفات ان يعقد لقاء سيدة الجبل في الخريف حيث تظهر عورات البيئة المسيحية أمام أنظار مجموعات مسيحية متنوعة لا بد من ان يكون بينها، على كثرة عدد المدعوين (نحو 600)، من شارك بطريقة ما في تمزيق النسيج الاجتماعي اللبناني، ولا سيما أمراء الحروب وأركانها الذين لا يخلو منهم صف من صفوف 14 آذار. وحبذا لو نظر المجتمعون في الجلسة الأولى من اللقاء، إلى خريطة «التصحّر المسيحي»، وعاينوا أين كان المسيحيون وأين أصبحوا، على ان يستعينوا في ما بعد بخبراء في الإحصاء لاطلاعهم على نسبة تناقص أعداد المسيحيين خلال العقدين الماضيين، الذي قدره الخبراء بربع عدد المقيمين! هذا التناقص الذي يضرب فكرة المناصفة التي بنى عليها المطالبون من المسيحيين نظريتهم بأن ينتخب هؤلاء نوابهم في المجلس المقبل، وإن شكل الناخبون المسيحيون أقل من 20 في المئة من اللبنانيين، ما يجعل المناصفة منّة إسلامية قد لا تدوم. وستُظهر خريطة التصحر المسيحي في الخريف حيث تتعرى الأشجار من أوراقها، أين أضرم المسيحيون حرائق ودفعوا ثمنها. ومن أي أرض اقتُلعوا مع أشجارهم. وماذا بقي من ناس فوق ما بقي من أرض. وربما سأل بعضهم، بوقاحة، عن المسؤول عن الحرائق، والحروب، والتهجير، والهجرة، لا لشيء، إلا من أجل نصح أهل «الربيع العربي»، بمثلها أو بنقيضها. ومهما يكن توجّه المدعوين للمشاركة في لقاء سيدة الجبل والمكتوب يُقرأ من عنوانه غير الودي بالنسبة إلى توجهات البطريرك الراعي فإن نداءه الرسولي ورسالته الجامعة إلى أهل الربيع العربي، هما: نبذ الطائفية والمذهبية، والتمسك بالحرية والاستقلال والديموقراطية، وإعادة نسج حياة مشتركة إسلامية مسيحية. وسيضج صوته في اللقاء داعياً إلى معالجة «التصحّر المسيحي» في أي قانون انتخاب جديد، وجعل فصول العرب كلها ربيعاً، يسقي زرعها «العيش الواحد المتساوي والمتوازن بين مسلميه ومسيحييه». وفي اعتقادنا ان ليس للبنان سوى هذه الرسالة. [email protected] نقلاً عن " السفير "