ليس غريبا أو جديدا أن تمارس الإدارة الأمريكية هواية التدخل والإملاء في شئون بلدان العالم ومن بينها مصر. الجديد هذه المرة أن التدخل - ربما في سابقة غير متكررة - يصطف مع السلطة الحاكمة ويجابه قوى المعارضة، ويتقاطع مع مسألة تتسم بالحساسية والقراءات المتباينة هي مسألة الانتخابات البرلمانية في مصر. غلفت الإدارة الأمريكية تدخلها بثوب النصح والإرشاد لكل الأطراف السياسية مع دعوة محددة لجبهة الإنقاذ أن تغير موقفها من الانتخابات وتنبذ فكرة المقاطعة التي أعلنتها تقريبا كل قوى المعارضة المصرية. حين انتفض رموز المعارضة غضبا من التصريحات الأمريكية، ورأت فيها تدخلا سافرا غير مقبول في الشئون الداخلية لمصر وانحيازا للسلطة التي تمسك جماعة الإخوان المسلمين بزمامها، لم يجل بخاطر الغاضبين أن لهم إسهام وافر وممتد في تشجيع هذا التدخل وإسباغ الشرعية عليه بمنح شخوص مثل السفيرة الأمريكية مساحات غير مفهومة ولا مبررة (بعد الثورة على الأقل) للتدخل والتوجيه، بل والتوبيخ بدعوى التشاور والطمأنة والانفتاح على القوى الدولية الفاعلة. الآن فقط يتكشف لنا الموقف الأمريكي على حقيقته: تدخل ممجوج ومرفوض في الشأن المصري؟ وماذا لو كان تدخل واشنطن للضغط على الرئاسة وتقريعها؟ هل تختلف ردة الفعل ونصفق مهللين "للنُصرة" الأمريكية؟ الآن نرفض الزيارة المزمعة لوزير الخارجية الأمريكي للقاهرة؟ وماذا عن الزيارات العديدة للوزيرة السابقة وما خلفته من آثار على الخريطة السياسية التي تمخضت عنها الثورة؟ ندرك أن مصر دولة محورية وأن استقرارها شأن يتخطى حدودها إقليميا بل وعالميا، وندرك أيضا أن القلق الذي يعربد في نفوس المصريين من حالة الفوضى والاضطراب والاحتراب السياسي هو نفسه أو شيء منه ينتاب القوى الدولية التي ألفت أوضاعا في الدولة المصرية هي أقرب للموات الهادئ الذي لا يؤذي إلا المصريين دون أن يزعج الجيران والأصدقاء والأعداء، بل يسهم في حراسة مصالحهم وتيسيير مسالكها. ومن ثم نتفهم لماذا تحرص هذه الأطراف كلها على انتهاء الحالة غير المعتادة من الحراك والفوران والتشنجات والعودة سريعا إلى ما ألفوه. فإن كان سبيل العودة هو الانتخابات فلتجرى الانتخابات ولتصمت دعوات المقاطعة حتى لو بدا ذلك دعما للتيار الإسلامي ولجماعة الإخوان تحديدا وللرئيس محمد مرسي. هذه الحقائق تدركها ولا شك قوى المعارضة؛ الدعم الأمريكي ليس للسلطة الحاكمة في مصر وإنما للمصالح التي تتطلب هدوءا في الشارع السياسي المصري. والتوجيه بالعدول عن المقاطعة ليس معاداة للمعارضة، وإنما لتمرير الانتخابات علها تحقق الهدوء المنشود. على أن التدخل الأمريكي يمكن أن يمثل فرصة إن شاءت قوى المعارضة أن تحسن الاستفادة منها، فلا أكره على قلوب المصريين من أن يروا الآخرين يدسون أنوفهم في الشأن المصري ويمارسون نوعا من السلطة غير المرحب بها، وويل لمن يصطف الغرباء معه، يدخل على الفور في خانة المتآمرين أو في أفضل الأحوال الخانعين.. هي فرصة إذن للمعارضة كي تضفي على المقاطعة - من خلال التمرد على الدعوة الأمريكية - طابعا وطنيا أبعد من كونها مجرد آلية سياسية. نتفق بداية على أن من حق المعارضة أن تتخذ ما يتراءى لها من مواقف حتى لو أثارت الجدل حول جدواها وتأثيرها، والجدل ينحصر بين رأيين يعتقد أحدهما أن قوى المعارضة بجبهاتها وأحزابها وشبابها تقع في خطأ بين إن تصورت أن مقاطعة الانتخابات البرلمانية هي وسيلتها الناجعة للتخلص من حكم الإخوان وحلفائهم في الطيف الإسلامي الواسع عبر نزع الشرعية عن الانتخابات البرلمانية. ووفقا للرأي نفسه، فإن هذه القوى إن أصرت على المقاطعة تقدم برهانا جديدا على أنها لا تجيد قراءة الكيفية التي تسير بها الأمور في الواقع المصري، أو أنها تحسن قراءتها لكنها تتعمد إغفال ما تكشف عنه القراءة الواقعية من حقائق مريرة. فيما يذهب الرأي الآخر إلى أن المقاطعة هي السبيل الوحيد الذي ترك مفتوحا أمام القوى السياسية بعد أن سدت كل القنوات بتمرير دستور لا يرضون عنه وتمرير قانون للانتخابات يجدون فيه عوارا ومناورات لتقييد فرص المنافسين بما يمكن الإخوان وحدهم من تحقيق مغانم انتخابية كبيرة، أي أن السلطة تريدها مباراة أحادية الطرف لا مكان فيها لغير التيار الإسلامي. من هنا يأتي الإصرار على المقاطعة، غير أنه من المفيد الممايزة بين نوعين من المقاطعة في هذا الشأن: - مقاطعة القوى والأحزاب الترشح، بمعنى الامتناع عن خوض المنافسة الانتخابية. - مقاطعة شعبية، بمعنى رفض جموع الشعب الاحتكام إلى صناديق الانتخاب أياً كان المتنافسون عليها. تشير تجارب المقاطعة داخليا وخارجيا إلى أن النوع الأول لم يفلح أبدا في تحقيق الهدف المرجو منه، وأن النوع الثاني - مع أنه الأقوى تأثيرا - لم يختبر من قبل، وأن فرص النجاح لآلية المقاطعة لا تتأتى إلا عندما تنجح الأحزاب والقوى السياسية في حشد الجموع تجاه المقاطعة الشاملة للانتخابات.. فهل تملك الأحزاب وتيارات المعارضة هذه القدرة على التأثير؟ سؤال ربما يتعين مصارحة النفس بإجابته، وإلا فالأرجح أن يؤدي المضي في قرار المقاطعة إلى إخلاء الساحة للتيار الإسلامي بزعامة جماعة الإخوان للتقدم بلا عوائق في طريق ممهد نحو برلمان أحادي التيار. تفعل المعارضة هذا، بينما قد تكون الظروف الحالية مهيئة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق نتائج جيدة فيما يتعلق بالوصول إلى برلمان متعدد التيارات وأكثر توازنا من البرلمان المنحل.