من يتمعن في المشهد الساخن للأحداث الدموية في أكثر من بلد في المنطقة وبعيداً من التسميات المرحلية والسائدة، يصل إلى حقيقة مفادها أن هذه الأحداث، بتمخضاتها وتجلياتها، وتداعياتها، وحده الموت خرج منتصراً فيها، وهي نتيجة واقعية سواء سلّمنا بها أو لم نسلم، ومن لم يقتنع بهذه الحال أو يتهمنا بالتشاؤم والإحباط، عليه أولاً أن يقرأ هذه الأحداث في سوريا ومصر وتونس وليبيا، على أن يبعد عنه ارتباطاته السياسية والعرقية والمذهبية أثناء هذه القراءة، حتى يصل إلى نتيجة موضوعية وبعيدة عن هذه الارتباطات وبعيدة أيضاً عن العواطف والاصطفافات . وهذه مصر (أم الدنيا) تغوص في بحر من الأحداث الدموية، وعلى الرغم من إطاحة النظام السابق، ومجيء نظام من مخاض الانتخابات الديمقراطية، فإن أحداثها وأزماتها تتفاقم يوماً بعد آخر، حتى وصل الحال بأحد الثوار الشباب إلى القول من على شاشات التلفاز، إن الرئيس السابق حسني مبارك، حقق ثلاثة مطالب للثوار، أما محمد مرسي فلم يحقق أي مطالب رغم وصول المتظاهرين إلى أمام قصر الاتحادية . وأضاف، إن جماعة الإخوان المسلمين لم تتآمر فقط على شباب الثورة، ولكنها تآمرت على الثورة بالكامل وسرقتها من الشعب المصري بأكمله، وبالتالي فإن هناك ضرورة ملحة حالياً إلى تجميع كل الكيانات الموجودة على الأرض، لخلق قيادة بديلة لجبهة الإنقاذ التي أصبح سقف مطالبها دون مطالب الشارع، مشيراً إلى أن الحكومة والقيادة السياسية وجبهة الإنقاذ فقدا مشروعيتهما حالياً، وهو ما أدى إلى وجود حاجة ملحة إلى إعادة النضال إلى الشارع ثانية . بينما تونس (رائدة الثورة)، تتخبط في أزمة مرحلة ما بعد الثورة حتى وصل بها الحال إلى أن تلوح في أفقها بوادر عمليات الاغتيال المنظمة، لا سيما بعد أن تمت عملية اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد على النحو المعروف، الأمر الذي حدا بالمحللين إلى القول، إن الأزمة التي يعيشها الشارع التونسي اليوم ليست نتيجة صدمة الاغتيال فقط، بل بسبب طبيعة التونسيين الذين لم يعرفوا الاغتيال في حياتهم السياسية، ففي تاريخ تونس لم تُسجّل إلا حادثة اغتيال واحدة ذهب ضحيتها الزعيم الوطني صالح بن يوسف، وظلت هذه الجريمة فضيحة في الحياة التونسية إلى اليوم، إذ لم ينس التونسيون ذلك . أما الحادثة الثانية فكانت في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عندما اغتالت مجموعة من “رابطة حماية الثورة”، المنسق العام لحزب حركة نداء تونس لطفي نقض، ثم إن وصول تونس إلى مربع الدم كان منتظراً، وقد حذّرت أغلب الأحزاب والمنظمات من خطورة تراكم مستوى العنف الذي يمارسه السلفيون ومجموعات “روابط حماية الثورة”، وهو ما خلق بيئة مناسبة للاغتيال السياسي . وفي سوريا المشتعلة بأحداثها الدموية والتدميرية، فإن المراقبين ينظرون إلى نهاية هذه الأحداث بمنظار التشاؤم والإحباط، وهو أمر أيضاً جعل المبعوث العربي والدولي الأخضر الإبراهيمي يحذر من أن سوريا تتفكك أمام سمع العالم وبصره، حيث طلب من الأعضاء المؤثرين في أطراف النزاع، ممارسة النفوذ من أجل التوصل إلى تسوية تقي سوريا ذلك المصير، وتقي المنطقة ما هو أعظم . ولو عدنا إلى مصر التي تصدرت التحولات فيها اهتمام المراقبين في المنطقة والعالم، فإن هذه التحولات تلاشت مفاعيلها، كما أن الثورة نفسها تمخضت في حقيقة الأمر عن فوضى متواصلة حتى هذا اليوم . وهذه الفوضى التي تجتاح مصر من جراء الثورة، أصبحت في نظر المراقبين حالة تخريبية وتدميرية تطول المجتمع ومؤسساته، ويمكن اختزال المشهد المصري توصيفاً من خلال القول، إن من نتيجة الانحراف السياسي للقوى الحاكمة في أعقاب الثورة، أن اشتعلت ثورة الجماهير في يوم ذكرى ثورة 25 يناير، غير أن الانحراف السياسي للجماعة الحاكمة (جماعة الإخوان المسلمين)، لا يعادله إلا الانحراف السياسي للجماعات الثورية التي يتزعمها من يُطلق عليهم (الناشطون السياسيون)، فهذه الجماعات التي تصمم على الحق المطلق في القيام بالتظاهرات والاعتصامات السلمية، أثبتت بالممارسة أن (السلمية) وَهْمٌ باطل، وأنها دائماً ما تتحول إلى تظاهرات دموية يسقط فيها عشرات القتلى ومئات المصابين . ومن يطلع على تفاصيل المشهد السياسي الآن في مصر، يدرك أن البلاد انزلقت بالفعل إلى مهاوي الفوضي العارمة، بعد أن تم الهجوم الغوغائي على السجون والمحاكم وأقسام الشرطة والمقار الإدارية للمصالح والوزارات . إذاً، لم يتبق للثورات عكاز من التبرير والتمرير، لا سيما أن الذين أوصلتهم هذه الثورات إلى سدة الحكم، صاروا من أشد المناهضين لها، وبالتالي فإن الطرفين، الثوار والقوى المضادة، أضاعا بوصلة العقل، حيث عمّت الفوضى وانتشر التخريب وسُفكت الدماء . *************************** (عن الخليج - الامارات)