ربما كان صحيحاً ما أعلنته واشنطن من أن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون لم تناقش مع الرئيس مرسي "الإعلان الدستوري" الذي أصدره بعد يوم من زيارتها للقاهرة، والذي جمع فيه كل السلطات، ومنح قراراته السابقة واللاحقة الحصانة الكاملة ومنع القضاء من النظر فيها، لكن كل المعارضين لمرسي في مصر لا يتصورون إن الإدارة الأميركية كانت بعيدة عن هذه القرارات التي منحت مرسي من السلطات المطلقة ما لم يحصل عليه رئيس آخر من قبل، والتي كانت الشرارة التي أشعلت الأزمة الطاحنة في مصر، وأطلقت ثورة الغضب من جديد. التنسيق بين مرسي والإدارة الأميركية بلغ ذروته أثناء العدوان على غزة، والمديح الذي تلقاه مرسي من واشنطن بعد إقرار الهدنة بين حماس وإسرائيل كان مبالغاً فيه لدرجة كبيرة. ومسارعة مرسي بإصدار إعلانه الدستوري الذي يرسي دعائم الحكم المطلق بعد ذلك مباشرة لا يمكن أن يكون مصادفة، و"الإخوان المسلمون" لا يتحركون إلا بعد حسابات دقيقة. ثم رد الفعل الأميركي الذي التزم الصمت لأيام بعد الإعلان الذي مثل زلزالاً في الحياة السياسية المصرية، ثم تحدث حتى الآن بتحفظ كبير ومن دون إدانة، كلها علامات يراها المعارضون لمرسي والإخوان استمراراً للتنسيق مع واشنطن، كما حدث من قبل في التخلص من المشير طنطاوي والمجلس العسكري. في "ثلاثاء الغضب" خرج الملايين لرفض إعلان مرسي الذي اعتبروه إعلاناً بالديكتاتورية كان مفاجئاً للكثيرين. وربما كان أكثر الذين فاجأتهم ردود الفعل هم الإخوان المسلمون أنفسهم. لقد كانوا حتى ليلة "ثلاثاء الغضب" يتحدثون باستهانة عن ردود الفعل، ويتحدون بأن التظاهرات لن تتعدى الآلاف، وعندما فاجأهم المشهد كانت صدمتهم شديدة.. ليس فقط بسبب حجم التظاهرات الذي لم يحدث منذ أيام الثورة في يناير 2011، وإنما بحجم الغضب الذي لم يقدروه، ولم يتحسبوا له حين تصوروا أن الثورة قد انتهت وأن الباب قد انفتح لإقامة دولتهم دون شريك. استبد العناد بمرسي والإخوان. وبدأ توزيع الاتهامات على القوى الوطنية، مرة بالعمالة، ومرة بأنهم من فلول النظام السابق، ومرة بكراهية الإسلام باعتبارهم الممثلين الوحيدين له، وباعتبار كل الليبراليين واليساريين والقوميين من الكفار والملاحدة، ومرة الإعلان بأنه كانت هناك مؤامرة يشارك فيها القضاء. كان الاتهام متهافتاً لدرجة بائسة.. فقضاء مصر هو الذي أعطاهم 20% من برلمان 2005 حين أشرف على الانتخابات، وقضاء مصر هو الذي وقف ضد النظام السابق. وقضاء مصر هو الذي أصدر عشرات الأحكام لصالح الإخوان المسلمين قبل الثورة بما فيها أحكام تبرئة خيرت الشاطر وحسن مالك. لم تفلح تلك المناورات الصغيرة في إطفاء ثورة الغضب. لقد كان الهدف واضحاً من إصدار الإعلان "غير الدستوري" الذي فجر الأوضاع. إخضاع كل بؤر المقاومة للنظام الديكتاتوري الجديد الذي يتم بناؤه بمباركة أميركية. إطلاق يد السلطة في البطش بالإعلام والصحافة، وإخضاع السلطة القضائية، والسيطرة على كل مؤسسات الدولة، وفرض الدولة المستبدة تحت غطاء ديني زائف. الهدف هو تمرير مشروع الدستور الجديد الذي يعصف بالحريات. تمرير الدستور وتحصين وجود الرئيس في موقعه حتى نهاية ولايته، ثم الاحتفاظ بمجلس الشورى الذي جاء بقانون باطل، وإحكام القبضة الإخوانية على البلاد بالسيطرة على كل مفاصل الحكم، هذا هو الهدف وليس التآمر المزعوم من حلفاء الأمس الذين سلموهم السلطة، وشاركوهم في اختطاف الثورة ومهدوا لهم الطريق للاستيلاء على الحكم. أكتب هذا المقال صباح الخميس، والقوى الوطنية تستعد لجمعة الغضب وتعلن الاعتصام في ميدان التحرير حتى إسقاط الإعلان الدستوري، بينما "الإخوان المسلمون" وحلفاؤهم يعلنون التظاهر يوم السبت في الميدان نفسه الذي شهد ميلاد الثورة، ويشهد الآن عودة الحياة لها "ميدان التحرير"، هل هي دعوة للتظاهر أم لاقتحام الميدان؟.. وهل هي انتصار للإعلان الدستوري الاستبدادي، أم هي إشارة البداية لحرب أهلية يراد منها أن تدمر ما تبقى من الدولة، وأن تخترق ما تحصن به المصريون على الدوام من الحفاظ على وحدتهم الوطنية في وجه كل التحديات؟! مصر تحارب معركتها ومعركة الأمة العربية كلها. إما أن تنتصر الفاشية التي تستغل الدين الحنيف لإقامة دولتها المستبدة، أو تنتصر الثورة التي تجسد روح مصر الحقيقية. لا أشك لحظة في أن مصر ستنتصر لحريتها.. استقلالها، وعروبتها. وللدولة المدنية التي تبنيها منذ عشرات السنين. ما يفعله الإخوان المسلمون وحلفاؤهم الآن هو جريمة في حق الوطن. اقتحام ميدان التحرير يعني أنهم يخططون لمذبحة ولحرب أهلية، أو يريدون تمهيد الطريق لإعلان الطوارئ وحظر التظاهر وفرض ديكتاتوريتهم الجديدة بالقوة. ما حدث من ملايين المصريين في "ثلاثاء الغضب" و"جمعة الشهداء" يقول بوضوح إن روح الثورة عادت، وأن الاستبداد هو المستحيل. ليتهم يفهمون - قبل فوات الأوان - أن مصر أكبر من "الإخوان المسلمين" حتي لو تمتعوا كما حدث بدعم الأميركان!! (نقلا عن البيان - الامارات)