لم نفق من هيبة الدولة وهيبة الرئاسة لتداهمنا هيبة "أبلة" إيمان معلمة الأطفال التي عز على كبريائها ألا تمتثل طفلتان بالمرحلة الإبتدائية لفرمان أصدرته بأن ترتديا الحجاب وهما بعد دون سن التكليف فأعملت مقصًا في ضفائر طفولتهما. تقول المعلمة الموقرة: كان لابد أن أحمي هيبتي في الفصل. لم تنتبه أنها هي التي وضعت هذه الهيبة- إن وجدت- في مأزق عندما انتزعت لنفسها حقوقًا وسلطات لا يسوغها لها موقعها التربوي. وتناست غالبًا أن أقصى حدود هذا الدور- هذا إن كانت تدرس تربية دينية- أن تشرح حكم الدين بأمانة وصدق في الزي الإسلامي وما هي مواصفاته ومتى يجب ارتداؤه. ولكن لأننا في مرحلة يقتطع كل شخص فيها لنفسه حقوقًا ليست له ويفتش عن طرف أضعف ليمارس عليه سلطة مغتصبة، فلا مانع أن تقوم أبلة إيمان بدور الداعية داخل الفصل المدرسي أما الدور التعليمي الذي هو من صميم عملها فمتروك للأقدار أو للدروس الخصوصية تتكفل به. من سوء أو لعله من حسن الحظ أن واقعة الضفائر الطائرة أعقبت تصريحًا مخيفًا للسيد وزير التربية والتعليم لايرى فيه غضاضة في اتباع الضرب أسلوبًا ومنهاجًا في المدارس. وكلاهما، الواقعة والتصريح، يرسمان بألوان بالغة القتامة جانبًا من الصورة المفزعة لمأساة التعليم في مصر التي يبدو أنها لن تجد من ينهيها في المستقبل القريب أو ربما البعيد إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه. واقعة المعلمة دالة وكاشفة عن التفكير الذي يعشش في بعض إن لم يكن أغلب العقول المسئولة عن تنشئة أجيال من المصريين. المشكلة ليست في نوعية التفكير الذي يعتنقه هؤلاء- إسلاميًّا كان أم علمانيًّا أو أيًّا ما كان - بل في اعتقادهم أن من واجبهم ومن حقهم أن يبثوا هذا التفكير في عقول من حولهم. ويسهم الافتقار للمهنية وضعف الإعداد وغياب التدريب في تفاقم هذه الحالة ومعهم ارتخاء يد الرقابة والمتابعة وترهل المؤسسة التعليمية في أغلب مستوياتها. يستهين المسئولون عادة بوقائع من هذا النوع بدعوى فرديتها. لكن مثل هذه الوقائع شاعت أواخر الثمانينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي وأدت إلى ذيوع حالة الاحتقان الديني والطائفي، جراء ترديد أقوال جهولة على مسامع الأطفال الذين ينقلونها ببراءة إلى أهليهم فتثير الضغينة والبغضاء، أو يحتفظون بها لأنفسهم فتترسب داخلهم على أنها حقائق مسلمة ما أدى إلى تسمم عقول الأطفال بأفكار دفع المجتمع ثمنها فادحًا فيما تلى من سنوات. التعليم في مصر بحاجة إلى طوق نجاة يتجسد أول ما يتجسد في معلم متفتح الذهن واسع الأفق يعي خطورة دوره ويلتزم بقواعد المهنية والكفاءة والنزاهة في أداء مهام مهنته السامية. ثم إنه يتجسد أيضًا في إحياء الدور التربوي للوزارة بمستوياتها كافة. ومن ثم فإن آخر ما كنا نتوقعه هو صدور التصريح الذي تفوه به السيد وزير التعليم بإباحة الضرب في المدارس للحفاظ على هيبة المدرس. لاحظ التذرع بالهيبة مرة أخرى وكأن هيبة المعلم لا تتحقق إلا على جثة كرامة الطلاب وسوائهم النفسي وحريتهم الشخصية. ما يثير الأسى في التصريح الذي أدلى به الوزير المسئول- رغم تراجعه عن هذا التصريح في أعقاب الاحتجاجات العارمة التي أعقبت صدوره، أنه يكشف عن عدم معرفة بالواقع الأليم الذي يدور خلف جدران المدارس الحكومية تحديدًا والتي تشكل النسبة الأكبر على الإطلاق بين المدارس في مصر. ولو علم الوزير لاكتشف أن المدرسين- خاصة في المرحلتين الأوليين- لا ينتظرون توصية ليمارسوا الضرب بل أشد أنواع العنف بالذات ضد صغار الطلاب الذين لا يملكون دفع الضرر عن أنفسهم. يُعرف علماء الاجتماع والتربية العنف اللفظي- فقط اللفظي- الموجه ضد الأطفال بأنه العنف الخسيس؛ لأنه يصدر عن شخص يتحصن بسلطة أوقوة يكفلها له تفوقه البدني أو موقعه ضد شخص أضعف بدنيًّا وسلطويًّا. وفي مدارسنا الحكومية يشمل الجهل التعليمي الذي يتحلى به بعض القائمين على العملية التعليمية نظرة بالغة الدونية للطلاب باعتبارهم يتلقون تعليمًا مجانياً. وكأن هؤلاء الطلاب يتسولون التعليم أو كأن التعليم ليس حقًا من أهم حقوقهم التي كفلها لهم الدستور، وتتحمل الدولة - الدولة وحدها وليس أي جهة أوشخص آخر- تكلفة توفير هذه الخدمة كمقابل للضرائب التي يدفعها الشعب. وبموجب هذه النظرة الموغلة في الطبقية لايتورع الكثير من ضعاف النفوس عن إلحاق الأذى بالطلاب بدعوى تعليمهم وتربيتهم. يقول الوزير- وهو ذو خلفية تربوية-: إن الضرب ما دام غير مبرح فلا ضير فيه. لكنه لا يقدم معايير يقاس على أساسها متى يكون الضرب مبرحًا أو معتدلًا. في مفهوم البعض قد يكون الضرب بالعصا على أصابع الصغار مرات حتى تلتهب مبرحًا أكثر من صفعة على الوجه. أما الحقيقة فإنه بينما تضر العصا بالطفل بدنيًّا فإن الصفعة أو الركلة وكلاهما شائع للأسف الشديد في المدارس الحكومية تحدث عطبًا نفسيًّا هائلًا قد لايمكن إصلاحه في الطفل وتؤدي إلى نشأته إما خائفًا خاضعًا أو ناقمًا كارهًا للمجتمع ككل. والمعنى أن كل أنواع الضرب والعنف حتى اللفظي منها مبرحٌ بشدة ولايجوز التلميح بصحتها أبدًا. نتفق على أن هيبة المعلم تهددت وأهدرت في السنوات الماضية وأجترأ عليها بعض الطلاب وهو وجه آخر لتردي التعليم ولكن يتعين على المسئولين أن يجتهدوا في إيجاد طرق وأساليب لاستعادة هذه الهيبة ليس من بينها إهدار إنسانية الطلاب أو الحجر على حريتهم الشحصية.