جاء من قلب الصعيد محمولًا على وحي التأملِ وبساط الحسِ والتفكُّرِ متحليًا بنقاء ذهنه وصفاءِ طبعه، هاجر ثم عاد ليمدَ دوحةَ الشعرِ من نجد إلى مصر، رافعًا عمودَ الشعرِ في عنان السماء بجزالةِ لفظهِ وسمو معناه وكأنه اعتصر الأريجَ من عدة أزاهر ليصبه لنا في قالبٍ من شعرالعامية والفصحى.. وتميز في كليهما إلى أنْزاوج بينهما فأنجب قلمه بديع القوافي. "محمد عباس محفوظ".. تمثَّلَ في شعره إلى أبعد الحدود متميزًا بصدق اللهجة حيث يقول في قصيدة "تجليات عاشق": الصدقُ طبعي والمروءةُ شيمتي * والحقُ درعي والكفاحُ لوائي أهوى حياةَ الناظرين إلى العُلا * أأبى الحياةَ بمنزلِ الجبناءِ ويمضي إلى أن يقول: أو أنْ أُساقَ إلى السعيرِ سوحًا * وسلاسلُ الأغلالِ كل ردائي.
ولد "عباس" بقرية البراهمة في سبتمبر 1958 بقنا، وكان منذ صغره يلقي الشعر في طوابير الصباح، نشأ في قرية يتنفس الشعر عبر الهواء المعبق برائحة النبات، شلال عشق رغم أصالة التقاليد وصرامة الأعراف.. ورغم إقامته بالقاهرة، فإنه يقضي أجمل أوقاته في قريته حيث يستقبل الشعراء من محافظات الجنوب. يسري في مسامات الشطور كالجدول الهادىءالمنسابفيه أرواح وحيوات، فشعره ينضح بالمعني البليغ الذي ينبض ويتنفس ككائن حي كل عرق منه قادر على رد الحياة إلى أزمنة قد خلت وانحلت من زمن سحيق. تمرد على البيروقراطية المنصرمة في قصيدة "خماسين" أروع ما كتب بالعامية؛ حيث أن القصيدة تجسد حالة مأساوية سوداء بوفاة أمه فيقول فيها: طيب كنتي استني عليا.. لحد ما تاخدي عزاي!! ..أبااااي على قسوة قلبك يا اماي!! .. كل ما أريح خدي عليهلأجل ما يسحب مني أساي.. يهتف من آخر بقعة ف مشاية دمه إلهي ما يكوي قلبي عليكم.. ياخد من عمري ويديكم.. يجعل يومي قبل أيامكم ومن أشهر عامياته "عنزة هاجر، بردية البراهمة". أتقن معنى الحياة من الخيال إلى مرحلة الصياغة والإبداع لذا أنجب قلمه العبقري تلك القافية الكريمة التي يقول في آخرها: إنني بعض بقايا أتشرَّى * في فراش الموت أهوى أن أراكِ ليس ينشيني سوى قطرات طل * بالتياع تتدلى من نداكِ ليس يشفيني سوى شلال عشق * بالتهاب يتفرَّى من هواكِ ليس لي يا مصر إلا منية * أن تحضني قبري وتغشاني سماكِ هو شاعرٌ من وحي ملائكي وليس من شيطان كأن به مسُ نبوءة تمت بصلة وثيقة لسر إلهي باتع، يلتمس للمعنى جسمًا فتيًّا من المفردات فيحسن التجسيد أيَّما إحسان. له ديوانان أحدهما بالفصحى "بشائر الفرح" والآخر بالعامية" طيور البهجة " يتميزان بالإدهاش الشعري.. إذ تلحظ فيهما تفاؤلَ الشاعرِ وعاطفته الجياشة نحو الحب والإخاء. أيها الشامخ أضفت حين نظمت قصدت الشعر فلا عبت ولا قصرت. طاب مقامُك في طليعةِ الخناديدِ الجهابذةِ عن جدارة من المشهد الأسبوعى..