تقرير: سوريا تُبعد الفصائل الفلسطينية وتُسلّم أسلحتها استجابة لضغوط دولية وإسرائيلية    عمرو أديب: هناك حديث عن احتمالية إيقاف النشاط الرياضي بمصر وتعليق إعلان بطل الدوري    غرق شاب داخل حمام سباحة بالشيخ زايد    المركز الثقافي بكفر الشيخ يشهد عرض ملحمة السراب لفرقة دمياط    مستقبل وطن يعقد اجتماعا مع أمنائه في المحافظات لمناقشة خطة عمل المرحلة المقبلة    يد الأهلي بطلا لكأس الكؤوس الأفريقية بعد الفوز على الزمالك    إنقاذ شاب مصاب بطعنة نافذة بالقلب فى المستشفى الجامعى بسوهاج الجديدة    سبورت: خطوة أخرى على طريق ميسي.. يامال سيرتدي الرقم 10 في برشلونة    لتصحيح المفاهيم الخاطئة، الأوقاف تسير قوافل دعوية للمحافظات الحدودية    انخفاض القيمة السوقية لشركة آبل دون مستوى 3 تريليونات دولار    اليورو يهبط مع تهديد ترامب بفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي    نيللى كريم تغنى وترقص مع تامر حسنى بحفله jukebox والجمهور يصفق لها    السفيرة نبيلة مكرم عن أزمة ابنها رامى: نمر بابتلاءات وبنتشعبط فى ربنا (فيديو)    وفقا للحسابات الفلكية.. موعد وقفة عرفات وأول أيام عيد الأضحى 2025    «الوزير» يتفقد الخط الثاني للقطار الكهربائي السريع في المسافة من القاهرة حتى المنيا    بسبب توتنهام.. مدرب كريستال بالاس يكشف حقيقة رحيله نهاية الموسم    أسعار مواد البناء مساء اليوم الجمعة 23 مايو 2025    «مكنتش بتفرج عليها».. تعليق مفاجئ من الدماطي على تتويج سيدات الأهلي    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    اليونيسيف: الأزمة الإنسانية فى غزة تعصف بالطفولة وتتطلب تدخلاً عاجلاً    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    محافظ البحيرة: إزالة 16 حالة تعدي على أملاك الدولة بالموجة ال 26    عاجل|بوتين: مستقبل صناعة السلاح الروسية واعد.. واهتمام عالمي متزايد بتجربتنا العسكرية    يختتم دورته ال 78 غدا.. 15فيلمًا تشكل موجة جديدة للسينما على شاشة مهرجان كان    كم تبلغ قيمة جوائز كأس العرب 2025؟    «المشاط» تلتقي رئيس المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة لبحث سبل تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين    من مصر إلى إفريقيا.. بعثات تجارية تفتح آفاق التعاون الاقتصادي    مستشفى الحوض المرصود يطلق يوما علميآ بمشاركة 200 طبيب.. و5 عيادات تجميلية جديدة    بين الفرص والمخاطر| هل الدعم النفسي بالذكاء الاصطناعي آمن؟    القاهرة 36 درجة.. الأرصاد تحذر من موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد غدًا    مدير جمعية الإغاثة الطبية في غزة: لا عودة للمستشفيات دون ضمانات أممية    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    أمين اتحاد دول حوض النيل يدعو للاستثمار في أفريقيا |خاص    إيفاد قافلتين طبيتين لمرضى الغسيل الكلوي في جيبوتي    تقديم الخدمة الطبية ل 1460 مواطنًا وتحويل 3 حالات للمستشفيات بدمياط    الزمالك يعلن جاهزيته للرد على المحكمة الرياضية بعدم تطبيق اللوائح فى أزمة مباراة القمة    صفاء الطوخي: أمينة خليل راقية وذكية.. والسعدني يمتلك قماشة فنية مميزة    جوارديولا: مواجهة فولهام معقدة.. وهدفنا حسم التأهل الأوروبى    البريد المصري يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة    ضمن رؤية مصر 2030.. تفاصيل مشاركة جامعة العريش بالندوة التثقيفية المجمعة لجامعات أقليم القناة وسيناء (صور)    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    ضبط مدير مسئول عن شركة إنتاج فنى "بدون ترخيص" بالجيزة    ننشر مواصفات امتحان العلوم للصف السادس الابتدائي الترم الثاني    "طلعت من التورتة".. 25 صورة من حفل عيد ميلاد اسماء جلال    بدون خبرة.. "الكهرباء" تُعلن عن تعيينات جديدة -(تفاصيل)    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد المخططات الاستراتيجية العامة ل11 مدينة و160 قرية    وزير الزراعة يعلن توريد 3.2 مليون طن من القمح المحلي    زلزال بقوة 5.7 درجة يدمر 140 منزلا فى جزيرة سومطرة الإندونيسية    رئيس بعثة الحج الرسمية: وصول 9360 حاجا من بعثة القرعة إلى مكة المكرمة وسط استعدادات مكثفة (صور)    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    المشروع x ل كريم عبد العزيز يتجاوز ال8 ملايين جنيه فى يومى عرض    ترامب وهارفارد.. كواليس مواجهة محتدمة تهدد مستقبل الطلاب الدوليين    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    مصادر عسكرية يمينة: مقتل وإصابة العشرات فى انفجارات في صنعاء وسط تكتّم الحوثيين    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما بين طين الأرض ونور السماء طافت "صباح عبد النبي" بشذوذ اضطراري
نشر في المشهد يوم 30 - 10 - 2015

كيف كتبت صباح روايتها في مدة زمنية طالت أو قصرت وفي عدة جلسات.. هي لا تصلح إلا أن تتم كلها في جلسة واحدة، لا أتخيل إلا أني أجلس مع "نورا" في قطار العودة إلى "الحناين" وهي تحكي لي قصتها كما سردتها في الرواية حتى نصل البلدة، وذلك لأن الرواية تقطع نفس السامع والسارد معا فلا هذا يجد النقطة التي يقف عندها، ولا ذاك يسمح له شوقه بالانتظار.. قصة لاهثة متداخلة الأحداث تثبت أن "صباح عبد النبي" تملك السرد الشيق الذي يبهر المتلقى ولا تدع له الفرصة لالتقاط أنفاسه..
فنراها في البداية تصور لنا باسلوب المتكلم على لسان طفلة تدعى "نورة" حالتها وهي تعوم في النيل تعقد سيمفونية ماتعة بينها وبين مياهه حتى تشبع منه ويشبع منها وحين تريد أن تخرج من الماء لا تجد ثوبها فنشاهد صراعا كبيرا لكي تحصل على ثوبها أقول "نشاهد" لأنها تكتب وكأنها تصور الحدث فنرى الثوب تبعده المياه عنها تفرده حينا وتقببه حينا وهي تجتهد اجتهادا مريرا لكي تصل إليه فتفشل فتحس بالمأزق كيف تخرج من الماء، فتنزل دموعها غزيرة.. وهي في هذه الحالة تلمحها داية البلدة "ساكتة" على حمارها فتحكي وهي في تلك الحال المضطربة الخائفة قصة ساكتة مع حمارها:
(الذي تعود ملمس جسدها.. يمط رقبته حول خصرها يجذبها نحوه تبعده بدلع يجدد رغبته بمشاكستها) ص7
وتستمر وتستمر في وصف هذه العلاقة وصفا دقيقا مدهشا، وتعرج منه على الإتن الراغبة في ذاك الحمار:
(وحتى هذه الإتن تتسلل إلى الأخصاص المضاءة ترقب من فتحاتها الشاشات العريضة) ص8
في وصف يبدو منه الانتقاد لما تعرضه تلك الشاشات، ثم تعرج بنا على قصة "الأفغاني" وأصدقائه الذين يسهرون يحششون ويلعبون النرد، فعندما تقول:
(ينحط سلوك تلك الحمير بفعل الدخان المنبعث من نارجيلة الفلاحين عندما تدق أقدام الأفغاني أرض الحناين)ص8
ما أظنه إلا وصفا لرجال لا هم لهم إلا إشباع غرائزهم.
المهم أن كل هذا تحكيه "نورا" وهي غارقة في مأزق حقيقي تسح دموعها وتبكي بصوت عال، وقبل أن تدقق "ساكتة" فيها النظر وتتعرف عليها وتلقي لها بعض الجدائل لتسحبها بها وتغطيها بملاءتها السوداء وهي تخرج من الماء..!!
ألم أقل أنه ليس هناك وقتا لالتقاط الأنفاس..
ولا تنسى وشعرها يبلل ظهرها أن تعْلمنا بأن "لساكتة" مهمة أخرى مع "نورا" لم يأت وقتها بعد في كلمات مثل:
(تقترب مني تطل القسوة من عينيها، تلوح لي بالموسي يعكس ضوء الشمس في عينيَّ تتوعدني به تناكدني) ص9
القصة تدور في الصعيد ورغم ما يعرف عن الصعيد من صرامة في تربية البنات وحجزهن داخل الدور إلا أننا نجد ثلاث بنات صغيرات من بيت "خليل حمد" (نورا بطلة القصة، هند مروان، تمارا حسن) نجد هؤلاء البنات سارحات منطلقات وفي الوقت ذاته مطلعات على عوالم الكبار فتتفتح مشاعرهن وتدق قلوبهن مع كلمات شاعر القرية، فهن عارفات بما يحدث في قصر الثقافة ليلا، وما يفعله حارسه، وفي الوحدة الصحية نهارا وإن اندلق على رؤوسهن ماء القلل كله، بل عارفات بما يحدث في دارهن بين جد وزوجتين تتنافران دائما، وأيضا في الكنيسة ولهما من الدلال ما يهيئ لهن الخروج على طقوسها، ولنا أن نعد "ماري جورج" صديقة رابعة لهن وإن كانت لا تشاركهن في انطلاقهن وابتزاز حارس بيت الثقافة للحصول على الكتب والمجلات، لكنها تشاركهن في قراءتها وإخفائها..
تأتلف روح البنات الأربع وتشذ روح "نورا" بطلة قصتنا وتدور الأحداث على لسانها، فلها طقس خاص بها يعرفه أهل بيتها وربما أهل القرية جميعا، وهو أنها تخرج إلى الغيطان ليلا هائمة بين الحقول هائمة روحها صاعدة في عوالم خاصة بها تراقص أرواحا شفافة نورانية مثل التي كانت تسبح معها في الصباح، تغيب روحها مع هذه الأرواح وتعود لدارها جسدا بلا روح، فتأخذها الأم في حضنها تقرأ المعوذاتان يسكن ارتجافها تدريجيا حتى تعود إليها روحها فتهدأ تماما وتعود معها ملامحها.. يراها جدها لا إرادية فهى إما ملموسة أو ممسوسة.. وهذا هو الشذوذ الاضطراري.
اللغة جميلة صريحة، ربما غير موارية لكنها لا تجرح، والوصف بديع مشبع لا تشعر أنك لم تأخذ كفايتك، والخبرة بدقائق هذه المنطقة ماديا ومعنويا تامة تامة، والسرد درامي كل جزء فيه مجسد، ومصور بدقة، فالنيل ليس مياه بين حافتين كما نرى بل هو كائن حي له علاقة بالدور المطلة عليه:
(ينثني تحت قدميها، يلعق ثراها المخلوط بعطر نبات الحناء يمزجه بريقه المسكر، يذوب في عسله فيربو ماؤه ويزيد، يلقي بطميه في حجرها ينضر وجهها) ص5
وهكذا فكأنك ترى وتسمع النيل وهو يتفاعل حتى مع الجماد دُورا وأرضا وهواء، وهو يتفاعل أيضا مع الكائن الحي فها هي "نورا" بجسدها فيه:
(يشاغبني في وقار يسلت ثوبي الفضفاض الأصفر يلقيه بجرأة إلى موجه وينفرد هو بجسدي عاريا يفك ضفائري) ص5
وناي "العطيفي" لا يخرج صفيرا حزينا وكفى بل:
(النخيل يتمايل على تقاسيمه ليلا) ص9
وكما يفعل ناي "العطيفي" الذي يعتلي التل الأخضر بين قريتي "الحناين والعطايفة" والذي تبحر شجونه داخل فتحات نايه وتنبعث شجية ينشرها الهواء البارد فتهز النخيل والعاشقين، أيضا يتفاعل معه القمر، يذوب مع القرية الحالمة في عشق فضي:
(ينثر حبات سكره الأبيض يرشه على وجهها وهو مغادر يزيدها حلاوة) ص10
وكذلك تفعل كلمات ابنه "سمير العطيفي" الشاعر ومدير بيت الثقافة فعلها في قلبي "نورا" وابنة عمها "هند مروان" فتحلم به كل واحدة بطريقتها.. وتتسابقان وثالثتهما "تمارا حسن" على قراءة ديوانه وحفظ أشعاره ويحلمن ويحلمن حتى طار العصفور المغرد إلى القاهرة ينشد أشعاره لقلوب أخرى.. ويترك قلوبا غضة تهفو إليه، تتصيد أخباره تتلقف دواوينه، تخفيها تحفظ أشعاره، ولما تقابله "نورا" بعد أكثر من عشرين سنة ويتحقق حلم العمر؛ تعرف أن ليس كل ما يلمع ذهبا.
لكاتبة الرواية "صباح عبد النبي" عين كاميرا، تسجل الحدث بتفاصيله فتراه متحركا أمامك؛ ففي الرواية البنات لا تُمسك ليجري الموس بين أفخاذهن وكفى؛ بل نرى الوصف الدقيق قبل وبعد، والكيفية والمشاعر ونظرات نساء الدار على تباينها، والأهم الكره الموجه لهذه الداية، ثم ما يتم بعد العملية من وقايات فقد آن آوان ذبح البنات الثلاثة ولنرى المشهد:
(نفتح عيوننا على وجه "ساكتة" البدوي القاسي، تفتح لفافتها البيضاء، ندس أعيوننا بين يديها، نضم أفخاذنا نساق إلى المذبح، تتنمر عيون النسوة بالدار ينتزعن سراويلنا يطوحنها بعيدا) ص47
ثم أن العين الدامعة تتابع تلك السراويل وهي:
(تدور في الهواء تستقر فوق بعضها البعض دون ترتيب) ص47
ويكتمل المشهد حتى نهايته لا يفوتها منه شيء إلى أن تتشح كل واحدة بقطعة اللحم المنزوعة منها.. فكأن القاريء ليس فقط يشاهد الفعل مجسدا بل ويشارك فيه فيقوم بدور الجاني والضحية في آن واحد..
مازلنا مع البنات المذبوحات وهن يستثمرن أيام وجعهن باستعراض ما اختزنته ذاكراتهن من حكايات:
(نتكلم بلهجتي العاشقين في شرفة الوحدة الصحية، نقلد "فريد" مهندس الري المنياوي؛ نمط الحروف في غير مواضعها، و"زين" معلم التاريخ الأسواني؛ نزيد حروفا ونحذف أخرى، نتحدث بالانجليزية والفرنسية، نقلد "مسيو ماكين" وهو ينطق الفرنسية، حين غادر "الحناين" بابنته بكينا على فراقه بكاء جماعيا، تسمعنا أمي، تمسك بعرجونها القديم تصوبه نحونا نكركر يزداد دمنا المسفوح بين الأفخاذ تصفر وجوهنا) ص49
هكذا نرى أن كل مدرس من بلد داخلي وخارجي وكله ثراء للعيون الفوتوغرافية والذاكرة التسجيلية اليقظة، والقلوب الاسفنجية.. ولكن في أي حقبة هذا.. أين الزمن كان يجب أن تحدد الكاتبة الفترة الزمنية التي تدور بها الأحداث بعد أن عرفنا مكانها، خاصة وأن هناك حدثا جللا وقع وهو إطلاق النار على أبيها وعمها معا ولدي "خليل حمد" أمام أعين الجميع بيد ضابط في حملة تفتيشية على السلاح، ولم يعثروا فيها على شيء.. وأخذ الضابط جزاءه في ذات اليوم، في ثأر أخر، فالصعيد لا يترك الثأر، قتله صبي انتقاما لوالده، .
الكاتبة المتمكنة لم يأت على لسانها لفظة شذوذ طوال القصة، فهي لا تتاجر بالألفاظ التي من شأنها تجذب المتلقي لكنها ماضية إلى الهدف.
وكنت أتساءل لماذا تصر أن تنطق اسم "هند مروان، وتمارا حسن" هكذا الاسمان متلازمان باسم الأب لم أجد لذلك توظيفا.
أما اختيار اسم "نورا" فله دلالة موافقة للشخصية، فهي فتاة نورانية لها عوالمها التي تسبح فيها روحها الشفافة، إذا سبحت فهي في كوكبة عارية من صبايا لها أجنحة شيفونية ملونة بألوان قوس قزح، وإذا سمعت عزف الناي تخف روحها يخف جسدها يهيم خارجا من باب الدار على أكف خضراء، وكثيرا ما تتوارى بين النخيل يلتف حولها أطيافا ناعمة يشع النور من حوافها، تروح معه إلي أجواء كانت لا تعرفها وهي صغيرة.
وكما قلنا أن كل شيء في الرواية مجسد ومصور، فإذا كان النيل لا يأخذ ثوبها بعيدا فقط بل يفرده ويكومه ويراقصه ويصنع منه قبة ذهبية، قد نتساءل لماذا قبة ذهبية ولكنا لا نجد ما يؤكد الخاطر، كذلك الحذاء لا يلقى على البنات وكفى، بل: (يسقط بين جموع الأوز الراقد في ركن بعيد في فناء الدار، تفزع تفر وهي تكاكي حتى تستقر وسط ماء الترعة)ص43
وحين تلقي "نورا" بالجدائل في قلب الترعة تتابعها:
(تتجاذبها مناقير الأوز، يلهو بها تلتف حول أقدامه تعلق بأظافره، يعجز عن التخلص منها، يعود الأوز وقت الغروب متشابك الأقدام)ص23
والأم لا تلسوع المؤخرات بالعرجون وكفى:
(تترك خطوطا حمراء على أفخاذنا ومؤخراتنا وما طالته من ظهورنا، تصرخ فيها "تمارا حسن": خلاص حرمنا يابنت "أبو لهب")ص42
إشارة إلى أن نسبها الذي ينتهي إلى قريش.
ولا يفوتنا أن نقف مع "نورا" وهي تحكي كيف وصلت لسن الحادية عشرة بما يلازم هذه السن من بروز مناطق في جسمها تصفها:
(تتبلور في جسدي تأخذ في الاستدارة لم تكن تبدو على قسماته من قبل)ص17
بهذه السهولة نجدها تنسلخ عن جسدها فتتكلم عنه باسلوب الغائب "على قسماته"، لأنها جسدا وروحا منفصلان جسد خاضع لعادات وتقاليد بلدتها وأهلها تكبل فيه خصلات شعرها، تضيق أستك سروالها، تساق قصرا لعملية ختان بكل قسوتها، والضرب بالعرجون.. الخ
وروحا تهيم بعيدا عن هذا الجسد، تخرج منه تلتقي بأرواح أخرى تراقصها تزفها للمجهول.. ونتساءل هل جاءت هذه البنت هكذا شاذة عن بنات القرية أم هي ترث ذلك من جدها:
(المتكئ على دكته الخشبية يحكي لحريم الدار وصفا لا ينقطع عن بنات الحور كأنهن ماثلات أمامه يرى نورهن، ويشتم روائح أنفاسهن، ويردد بعد كل تفصيلة: اللهم ارزقني الشهادة) ص17
وهو يدعو بهن لنفسه فقط دونا عن رجالة الحناين.
تكبر البنات فتراهن سائرات في الطريق إلى المدرسة الثانوية في المركز تلفهن الملاءات السوداء والبراقع لا يخلعنها حتى داخل المدرسة عدا "ماري جورج" هي الوحيدة التي يطيِّر شعرها الهواء ويلعب بخصلاته، يكتبن رغباتهن لكي تحدد كل واحدة مستقبلها، فتختار ماري القسم العلمي لتكون طبيبة نساء، تولد هند وتمارا أول ما تفعل، وكأنها تستشرف المستقبل حين نحت "نورا"، فالبنات النورانيات لا يتزوجن، تتضاحك البنات الأربع ذهابا وإيابا حتى مشارف الحناين:
(نتحول إلى آلات صماء تتحرك في اتجاه واحد رسمه لنا جدي)ص56
سنوات أربع بتلك الخطوات العسكرية بعدها يناوش قلبها أستاذها في كلية الآداب، ولكنها تتراجع عن مجاراته في الحديث:
(أدرك أن عقولنا المغتالة بعرجون أمي وأيدينا المكبلة بحبل جدي وضفائرنا المعقوصة بيدي جدتي تربك فكرنا)ص56
تتخرج البنات بين شد وجذب مع ذويهم، ثم يأتي دور تزويجهن زيجات يختارها الجد يعترضن الثلاثة، يصر الجد ترضخ اثنتان وتشذ "نورا" فتقدم على الفعلة الجريئة التي تحني روؤس الجميع وتجلب العار لولد الولد، تهرب دون أن يكون معها ثمن تذكرة القطار، تهرب هذه المرة بجسدها كما كانت تهرب بروحها منذ طفولتها، وقبل الهروب تلقى بالدبلة في الماء وتتابعها:
(تدور في الهواء دورات عشوائية حتى استقرت في قلب الترعة، يترك موقع سقوطها دوائر تتسع فوق سطح الماء حتى تلاشت)ص64
ومع هذا الهروب ننتقل مع "نورا" إلى عوالم أخرى، فنشاهد كيف تواجه بنت الصعيد أهل القاهرة بمتناقضاتها خاصة في الحي الراقي.
فما بين الموظف الكبير الطيب في وزارة التعليم الذي ينصحها كأنها ابنته ويطمئنها بوجوده، ويعطيها نقودا تشتري شنطة حريمي، وما بين الحرامي الراكب دراجة بخارية واختطف الشنطة وكاد يخلع كتفها.. لكنها شنطة فارغة فهي تربط كل ما يهمها في حزام حول وسطها مثبت بأستك سروالها.
أول ما راعها عند وصولها للمدرسة في الحي الراقي أن اليافطة مقلوبة؛ اسم المدرسة والمدرية والوزارة والمحافظة كله مقلوب، وهذا يحيلنا إلى بيت ثقافة "الحناين" أيضا له يافطة مقلوبة وصور كل العظماء المعلقة على بابه مقلوبة، أيدل هذا على انقلاب حال الثقافة والتعليم في عموم مصر من صعيدها وحتى وجهها البحري؟!!
ولماذا لا؟! والطقوس هنا وهناك واحدة:
(الباعة الجائلون يجوسون خلال غرف المدرسين، يفرغون مثاناتهم خلف سور المدرسة، تصطف سيارات الأجرة مساء في فناء المدرسة، يرطبون يد العامل بجنيهات يقتسمها هو ومديره) ص79
وهناك في الحناين:
(تمحو حرارة الشمس حروف اللافتة المعلقة على بابه يأوي إليه الباعة الجائلون ليلا وفي الصباح يتركونه مع قروش قلائل في يد "علي" الموظف يتغاضى عن الباعة الجائلين وهم يفرغون مثاناتهم المعبأة بزجاجات البيرة على حيطانه، يتركون نشعا بأطوال مختلفة تصنع لوحة سريالية)ص31
وليس هذا فحسب بل تقف من خلال تصحيح كراسات طلابها في الحي الراقي على مدى أميتهم.
عند محطة الفصل السابع يصيبني لهاث شديد وسرعة ضربات قلب في صعود وهبوط ففيه عدة أحداث لاهثة دون فواصل ولا مقدمات، ولا تعطيك الفرصة لتمتص الحدث السابق حتى يأتي اللاحق.. تدخل فيلا عليها لافتة تطلب محررين لغويين، تلتقي بشخص غريب يحرسه كلبان، بعد أن تعمل طوال اليوم يطلق عليها كلبيه، تتعرض لمطاردة ضارية ترى ركبها السائبة حتى أنها تبلل ثيابها رعبا تتخبط من ممر إلى ممر، تتعلق في سلم خزان المياه تقفز في حديقة الفيلا المجاورة تفر إلى الشارع تجري حتى سور مدرستها، وبهذا النهجان تلمح الفجوة في سورها تحكي قصتها وكيفية صنعها ولماذا صنعها الأولاد، ثم بمحازاة السور تلمح سيارة المدير، تخرج عيناها وهي تتحقق من ملامح "الأفغاني" وحقيبته السوداء، يودعه العامل بحرارة.. ثم تترك لنا الحيرة ولا تخبرنا هل هو فعلا "الأفغاني" ؟ ولماذا أتى وما علاقته بالمدير، وتتابع من مخبئها بين الأشجار شبابيك الفصل وفتح العامل للمخزن وتخايلها صورة خالد، ونعرف أنه تلميذها المقرب والذي له روح هائمة كروحها، والراغب في دخول الجنة، لذلك نشأ بينهما ود جميل، ثم نجدها في اليوم التالي في الفصل تلمح عيون تلاميذها الحزينة وغياب "خالد"، ثم تأتي إشارة من الشرطة، تهرول إلى هناك ترى أيادي الضفادع البشرية تحمل ملاكا عاريا، مات خالد شبيه روحها فتهيم من كوبري إلى كوبري ومن حي إلى حي، يصادفها جمع من الناس يضربون رجلا تتابع المشهد بكل تفصيلاته، تشكر سائق الاتوبيس الذي إلتقطها من وسط الطريق على غير عادته تستعرض تصرفه العدائي مع الركاب، تستعرض النساء في الطريق وكل المارة بكل متناقضات الحياة، تقف عند بائع البطيخ يذكرها بجدها "خليل حمد" يتأملها تتأمله يفرط حبات البلح من العرجون وينادي بلح "الحناين" يا بلح.. يأتيها إخطار من البريد بتسلم خطاب مسجل، تهزها الفرحة تم قبولها في إحدى دول الخليج..
وها نحن على موعد مع بطلة قصتنا لتطلعنا على عوالم جديدة أخرى حين تنتقل من القاهرة إلى إحدى دول الخليج، ونفتح أعيننا مع عينيها على حجرات تمتليء بالمدرسات من مختلف الجنسيات، نفزع معها على حية رقطاء في فراشها، نتوجس معها خيفة من حارس سكن المدرسات بعينه الحمراء الواحدة.
يتفهم الحارس حالتها، حبها للخروج ليلا حبها للسباحة يتركها تمارس طقوسها مع حراستها، وهو أيضا من يملك تلك الروح النورانية، يأتلفان لذا يشعر أنه يعرفها وتشعر أنها رأت المكان من قبل في المنام.. تفرح أنا صح قلت لجدي:
(هاروح مكان ما بين بحر وجبل)ص100
سنوات طوال في الغربة تنقل خبراتها لحديثات التخرج، تتابع حكايات المدرسات، تتبع الحارس إلى مدافن الصدقة.. بموته آن آوان رحيلها والعودة إلى مسقط رأسها، حط العصفور في عشه القديم، طار منه الجد والجدة، بزغ فيه أعمام جدد داعبت القلوب المتقاربة هند وتمارا ونورا بعضها البعض وهما تحملان ويجران أفراخهما، يمضون وقتا في الضحك واجترار الذكريات، تنضم إلي ثلاثتهم طبيبة قلبها "ماري جورج" والتي تعرف كل دروبه تشعر بتعبه تنصحها بالذهاب إلى طبيب نبضك يقل، وتطمئنها على اعتدال اللافته على بيت الثقافة وتحقيق أحلامها فيه على يد عميها والشباب الجديد، ونعرف أن "على" الحارس و"ساكتة" "والأفغاني" وآخرون من مصر قبض عليهم من قبل مكافحة المخدرات، وهذا يدل على أن لافتة المدرسة أيضا اعتدلت.. ثم يهدأ الجميع وتفرد الأم جناحين في آخر المطاف يندس فيهما عصفورها الشارد،ٍ تدفئان قلب "نورا" الحائر طوال حياته.. الوحيدة القادرة على تطبيب الروح الموجوعة هي أمها، يطول بهما الليل، تحكي لها عن الجد الذي مات بحسرته عليها، قال وهو يموت: (تعالي يانورا) وقال: (قربت ترجع) وظلت تحكي لها ما فاتها من حكايات.. ثم تذهب الأم إلى حجرتها لتنام، وتبقى "نورا" مع نفسها تمارس طقسها المعتاد، هذه المرة تنطلق روحها ويظل الجسد مسجى في مكانه، لتحكي لنا بنفسها كيف تصعد روحها:
(أهب واقفة أسير على أصابع قدمي، أدور دورات بطيئة يخف جسدي، تنبعث في جنبات الدار ترانيم حلوة، تتصاعد مع دخان خفيف أبيض، أفرد ذراعي أدور وأدور تعلوا النغمات مصحوبة بتراتيل عذبة أسبح في الهواء تسبح حولي صبايا لها أجنحة شوفونية ملونة مثنى وثلاث ورباع)ص 132
أنا وقفت بالرواية إلى هنا والباقي لا تظنه "تحصيل حاصل"، ولكنه بمثابة الهدهدة وأنت تتابع روح نورا وهي صاعدة.
ولايزال هناك ما يقال في الرواية فهي تحمل من الأحداث والدلالات على كل المستويات والجوانب التي يعجز الواحد الفرد أن يحيط بها.. سلمت يمينك صباح عبد النبي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.