أطلت علينا في الآونة الأخيرة ظاهرة " الشبشبة" في الغناء، فأنتجت ورشة غنائية فرويدية الفكرة هلامية المعنى خاوية المحتوى، ثم تُرك العنان لهذا الغثاء أن ينتشر ويتمدد ويتوغل ، مما أصاب مجتمعاتنا بتفكك نسيجه الاجتماعي ،وبتدحرج أخلاقه في هاوية سحيقة، فمن المسئول عن هذا التدني؟ أهو المجتمع؟ أم البؤر المنحرفة؟ أم القنوات التي تبرر غايتها بوسيلتها؟! كان المصري قديما يُنسب بفخر، إلى قادته وزعمائه وعلمائه، أما اليوم فيُنسب إلى مغنييه وراقصيه ولاعبيه، فأي انحدار وصلنا إليه؟ حتى أصبحت أسماء الراقصات اليوم هي الوسيلة لشحذ الهمم ولم الحشود. ويُعد شبشب "سما المصري" من أهم مظاهر هذا الاستلاب الذي أصاب الغالبية العظمي من شبابنا في مقتل ، حتى أضحى واحدا من أهم ركائز الأغنية المصرية العصرية، والذي سبب بضياعه ضياع العقول التي هامت على وجهها بحثا عنه ،لذا رشحت نفسها آملة أن تجده تحت قبة البرلمان القادم!!! لقد أطلق شبشب سما المصري شرارة البدء لظاهرة الاستلاب الثقافي والأخلاقي ، فغزا عقل المثقف والجاهل ، وسرعان ما انتشرت هذه الشبشبة بأشكال وصور مختلفة تتخذ من الشبشب محور ارتكاز للجري بالأغنية ، فأطلت علينا "سلمى الفولي " ب " سيب إيدي"، مطالبة بإطلاق يدها للبحث عن الشبشب الضائع . والحقيقة أن هذا الشبشب لم يظهر من فراغ بل هو نتيجة سلسلة من التفاهات التي أصابت ذوق الإنسان المصري ، إذ لا يزال عالقا بالذاكرة هذا الزحف المهول للأغنية المبتذلة وما انضوت عليه من صور صادمة تجافي الذوق العام بهدف الرغبة الجامحة في الحصول على أرباح مزجاة على حساب الدين والقيم والعادات والتقاليد ،في ظل انتشار كاسح لليوتيوب ومواقع التواصل الاجتماعي. ولا يستطيع أحد أن ينكر ما كانت تمثله الأغنية من بناء للفرد باعتبارها جزء أصيل من التراث والثقافة، ففي الماضي جسدت الأغنية الهادفة القيم الاجتماعية وتقيدت بالأطر الأخلاقية،فطربت لها أسماعنا وترققت معها أذواقنا، أما الآن فقد انحرفت الأغنية وهوت إلى درك سحيق تحولت معها إلى صراخ وضجيج وابتذال ، لا يهتم بالصوت ولا الكلمة ولا الموسيقى بل يهتم بالهلامية والعبث فضلا عن الأصوات المنكرة، مع عبثية المعنى وتهافته. ، فمازلت أتساءل حتى الآن عن معنى أغنية "حكيم مصر " والذي صعد لأعلى درجات المجد بأغنيته الشهيرة " لللو للو للو.." فأي معنى ينادي به؟ وأي هدف يرتجيه؟ والمعنى مقتبس من أغنية معبود العرب صاحب الضحكة البلهاء والتي لا تسفر إلا عن معان هلامية " الشاب خالد" ، وأغنيته التي حطمت قلوب العذارى وحصدت نسب مشاهدة واستماع عالية "دي دي ديدي وا" وكم من المضحكات المبكيات، عندما يهل علينا " الصغير " وينعق بأغنيته "بحبك يا حمار "ثم يكمل هذا النعيق بالرقص المبتذل والذي لا يخلو من تلميحات جنسية، ومن الحمار إلى العنب"فكهاني وبحب الفاكهة" فما الدلالات العميقة التي تحلمها أغاني هذا أل "صغير" سوى الهبوط بقيم المجتمع وأخلاقه ؟؟!! أي هراء وصلنا له عندما نلوث أسماعنا وأبصارنا بهذا الإسفاف ؟ أي تربية لأبنائنا ستؤتي أكلها في خضم هذا الفساد الذي يلاحقنا برا وبحرا؟!!. أي أخلاقيات سنغرسها في النشء وهم يستمعون إلى لغة الجسد والدعوة إلى الانحلال الأخلاقي ؟ لقد تراجعت الأذواق وزُج بها في قفص موصد، وأصبحت العادات والتقاليد في عداد المفقودين . ويبقى السؤال هنا مطروحا حول حدود العلاقة بين الفن والأخلاق وهل انتشار هذه الأغاني بمضامينها يجسد معنى حقيقيا لحرية التعبير في بلادنا؟ ---------- * أستاذ الأدب والنقد المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية