أن أولي لبنات تجسير فجوة العلاقات المصرية الخليجية هي أن نتحلي بما تيسر من الصراحة والوضوح ، أن نضغط علي "الدمامل " بشجاعة كي نخرج منها كل القيح والصديد المتراكم ، وأن ننظفها ونطهرها مهما تكن الأوجاع والآلام ،حينذاك لن يضطر أحد إلي أن يخفي خنجره خلف ظهره وهو يعانق الآخر متحيناً الفرصة الغادرة كي يغمده في صدره ، ولن يضطر إنسان أن يحتقر نفسه حين يقول بلسانه غير ما وقر في قلبه ... قدر أقل من العواطف ، وقد أكبر من العقل والفهم والتقدير .. الأزمة مع قطر مثلاً نموذج لكوميديا الأخطاء الدبلوماسية العربية .. الحساسية المفرطة والكبرياء المزعوم تجاه " الأشقاء " ، من انظمة مفرطة في الانبطاح تجاه " غير الأشقاء" .. وأعلام مريض يقتات مثل الديدان علي جثث موضوعات عفنة .. ومن غير المقبول ان يتم تحميل كل ذلك علي الشعوب التي تلتهم تلك الوجبات الإعلامية المسمومة ، فتشحن وتحتقن وتغضب ، ولعلنا نتذكر الأزمة الكروية مع الجزائر والتي كادت تتطور إلي أزمنة مزمنة في العلاقات بين البلدين .. وربما يقول قائل أن الموقف المصري كان في موقع رد الفعل ، وأن حكومة قطر عملت علي تسميم كل الآبار ، وخاصة من خلال عنصري القوة التي تملكهما وهما المال وقناة الجزيرة ، ومع كل ذلك فقد كنت دائماً اتصور ان بتوخي رد الفعل المصري الحزم والمرونة في نفس الوقت ، أما وقد أصبح الباب موارباً بمبادرة سعودية فربما هي فرصة لفتح ملفات مسكوت عنها ، نقترب منها ولا نمسك بها .. فمن المؤكد أولاً أن احترام الأوضاع الداخلية لكل دولة هو إلتزام دولي علي كل دولة ، ولا يمكن تبرير بعض التصرفات التي تعد تدخلاً سافراً في شئون بعض الدول ، وكان ينبغي علي جامعة الدول العربية سرعة التحرك المبكر للحيلولة دون تفاقم هذه التصرفات وتحولها إلي أزمة ، وذلك من خلال ما يسمي " الدبلوماسية الوقائية " .. ولكن يجب أن نعترف أيضاً بأن هناك معاناة حقيقية لأبنائنا العاملين في دول الخليج ، وأبرزها نظام الرق المسمي بنظام " الكفيل " .. ونحن في حاجة لمزيد من الصراحة والقوة في الحوار " الدبلوماسي " مع الأشقاء .. أبناؤنا يعملون بعرق جبينهم ولا يتسولون في شوارع تلك الدول .. والحل ليس كما جاء علي بعض الألسنة والسطور علي الجانبين "بأن من لا يعجبه عليه أن يعود " ، بل أزعم أن تلك الدول تحتاج إلي هذه اليد العاملة بمثل حاجتنا لوجودها هناك .. وعلي دول الخليج الشقيقة أيضاً أن تدرك أن التغيرات الداخلية في مصر سوف تتبعها بالضرورة تغيرات خارجية ، وأن مصر هي عامود الخيمة العربية شاء من شاء وأبي من أبي .. ولا يقدح في ذلك أن يقال أن نظام الكفيل مطبق علي المصريين وغير المصريين .. نظام الكفيل مستهجن وتطبيقاته - كما نعرف - مهينة للمصريين علي وجه الخصوص.. وأنا أرفضه من حيث المبدأ، ولكن اسثتناء المصريين منه علي ضوء مانكرره من العلاقات الخاصة بين مصر ودول الخليج، ولا شك أن هذاالإستثناء سوف يكون علامة فارقة في علاقات مصر بتلك الدول . في منظمة العمل الدولية وجهت انتقادات عديدة لنظام الكفيل ، هذا النظام الرديء ، الذي أراه سبة في جبين العرب والمسلمين .. ولكن معاناة المصريين تمتد إلي ماوراء ذلك النظام .. تلك النظرة الإستعلائية لبعض الخليجيين تجاه مصر غير مقبولة .. ولا أريد التذكير بما قدمته مصر لأشقائها دون من أو استعلاء ، ولكن تلك حقيقة تاريخية ، يجب أن يتذكرها أولئك الذين يرددون أنهم يتعطفون علي عمالنا بمنحهم فرصة عمل في بلادهم .. ولا أجد محلاً هنا للمقارنة مع الأزمة الجزائرية ، فالدم المصري والجزائري اختلط علي أرض الجزائر وضفاف قناة السويس .. وما حدث في الأزمة الجزائرية كان مفتعلاً من النظامين وغذاه إعلام جاهل علي الجانبين ،وأعرف من الأصدقاء الجزائريين أنهم يقدرون دورمصر، وليس لدينا مانخجل منه في هذا الخصوص، فما قامت به مصر لمساعدة حركات التحرر تاج علي جبيننا نفخر به، لأننا كنا علي الجانب الصحيح من التاريخ . لقد آلمني أن استمع إلي مثقف كويتي في إحدي الفضائيات ينفي مشاركة القوات المصرية في تحرير الكويت !! ، ويدعي أن لديه من الوثائق ما يثبت أن تلك القوات لم تتحرك من حفر الباطن إلا في اليوم التالي لتحرير الكويت ، وأنها لم تطلق طلقة ، وحين سأله المذيع عن تفسير تلك الأعداد من شهداء القوات المصرية ، أدعي أيضاً أنهم ماتوا نتيجة نيران صديقة من المدفعية المصرية نفسها !! .. من المحزن أن يشارك ذلك المثقف الكويتي في تمزيق أمته علي هذه الشاكلة في الوقت الذي يتباهي فيه بأن القوات الأمريكية و " قوات الفدائيين الكويتيين " هي التي حررت الكويت .. شتان بالطبع بين موقفه وموقف مثقف وحاكم خليجي آخر وهو حاكم الشارقة الذي أعطي لمصر وجندها حقهم من التقدير والإحترام .. وسأفترض أن ما ذكره ذلك الكويتي حقيقي ، هل ينفي ذلك حقيقة أن تلك القوات كانت في حفر الباطن متأهبة للموت كي تساهم في تحرير تراب الكويت ؟ ، ثم هل نسي أن عبد الناصر عام 1961 أرسل قوات مصرية إلي الكويت كي يجهض غزو عبد الكريم قاسم لها .. أنني لا أنسي مثلاً أنني أثناء عمليات العبور ، وكنت أحارب ضمن قوات الصاعقة ، التقيت في الجيش الثالث بطلائع قوات كويتية جاءت كي تساهم في معركة الشرف .. ورغم أنها لم تشترك فعلياً في عمليات قتالية ، إلا أنني لا زلت أفخر بمساهمة الكويت حتي الآن ضمن باقي الدول العربية التي أرسلت قواتها ومعداتها إلي مصر .. وختاماً لا أجد أفضل من تكرار ما ذكرته في صدر هذا المقال " أن نضغط علي "الدمامل " بشجاعة كي نخرج منها كل القيح والصديد المتراكم ، وأن ننظفها ونطهرها مهما تكن الأوجاع والآلام ،حينذاك لن يضطر أحد إلي أن يخفي خنجره خلف ظهره وهو يعانق الآخر متحيناً الفرصة الغادرة كي يغمده في صدره ، ولن يضطر إنسان أن يحتقر نفسه حين يقول بلسانه غير ما وقر في قلبه ... قدر أقل من العواطف ، وقد أكبر من العقل والفهم والتقدير" ، اللهم بلغت ، اللهم فاشهد --------------- * مساعد وزير الخارجية السابق المشهد .. لاسقف للحرية المشهد .. لاسقف للحرية