كنت قد زرت دبي قبل نحو سنتين و لكنني لم اقض فيها غير يوم واحد. صاحبني خلاله ابن ابن اخي ، فارس القشطيني، ففرجني على المدينة من الداخل فتجولت في مخازنها و بين عماراتها و الضوضاء تهد اسماعي . خرجت بإنطباع سيء عما شاهدت. و لطالما سمعت من غيري نقدهم لمدينة دبي بكونها " غابة من الكونكريت". بنايات عالية يزاحم بعضها البعض و يناقض كل منها ما حوله من البنيان. كان ذك قبل نحو سنتين كما قلت. و لكنني في هذا الزيارة الاخيرة لاستلام جائزة نادي الصحافة العربية و منتدى الاعلام العربي حظيت بوقت اكثر . في دراسة فن الرسم ، يقولون لك ابتعد عن اللوحة بضعة امتار وعاين ما انجزت من بعد. و كذا اقول للناقد و المتفرج ، ابعد عن اللوحة قليلا لتراها بصورة متكاملة . وهذا ما حصل لي و انا في الطابق الاعلى من الفندق على مرتفعات الجميرة، بعيدا عن مركز المدينة. ومن تلك الزاوية وهذا البعد الكافي، نظرت و إذا بما ارى امامي ليس مدينة تعج بالسيارات و الضوضاء و إنما لوحة فنية ، لوحة عملاقة من الفن التجريدي و التكعيبي يذكرك بشيء من اعمال براك و بيكاسو في مرحلته التكعيبية و اوائل مسيرته الحداثية. تحولت امامي كل هذه العمارات الشاهقة لدبي الى اشكال مستقيمة، مربعات و مستطيلات و قبب، محدبة و مثلثة و مدببة ، و منقطة بالشبابيك ، ولكل صبغتها الخاصة بها تتباين او تتناغم مع بقية ما حولها من الوان و اشكال. بيضاء و سمراء و خضراء و زرقاء، و كأن كلا منها مشغول بحوار لوني مع جاره. و كلها صورة تسر الناظرين. و لكن كل هذه الاشكال و الالوان و الخطوط سرعان ما تتحرك و تدور و تتداخل امام زرقة السماء العربية الناصعة ، حالما تتحرك انت بسيارتك ، يمينا او شمالا ، و كأنها اجزاء لفلم من افلام دزني الكارتونية. قلت لنفسي ، مسكين حقا من لا يلحظ هذا الجمال التشكيلي امامه. مضيت فتذكرت كل هذه الآيات الخالدة من فنون السلف، معبد البارثنون في اثينا ، و مرقد تاج محل في الهند و قصور القناة الكبرى لفينيسيا و بركة قصر الحمراء في غرناطة و طريق الشانزلزيه بباريس. هل ستضاف مدينة دبي العصرية لهذه القائمة من نفائس فن العمارة و هندسة المدن؟ شعرت في قرارة نفسي انه سيأتي ذلك اليوم الذي سيفد فيها السياح المتذوقون من شتى جهات العالم الى دبي ، لا لينعموا بشمسها او بلاجاتها او ملاعبها، و انما لينظروا و يستمتعوا بهذه الآية من الجمال المعماري ، هذه اللوحة التشكيلية من الفن التكعيبي التجريدي التي تفتقت عن خيال المهندس الانسان/ الفنان الذي ابدع في تجميع هذه الاشكال من المجسمات المعمارية على شواطيء الخليج الرملية و امواجه الزرقاء و شمسه الذهبية وسمائه الصافية. و ما اسعد من ينظر لهذا الصورة التشكيلية بعيدا من البحر! المشهد .. لا سقف للحرية المشهد .. لا سقف للحرية