حظي موضوع الاغتراب في الآونة الأخيرة باهتمام عدد كبير من الكتاب والمفكرين، واحتل مكانة جوهرية في كتب النقد والتحليل الاجتماعي الحديثة، وظهر بمثابة مشكلة بارزة في الأعمال الأدبية والفنية، كما أضحى قضية منهجية تناولها الفلاسفة بالتحليل والاستقصاء، بعد نشوء المجتمع الصناعي من جهة،وما رافقهما من ويلات ومآس من جهة أخري. وقد اعتبرالاغتراب ظاهرة إنسانية متعددة الأبعاد؛ فأصبح من الصعوبة تحديد معناه في الاصطلاح تحديداً دقيقاً، نظراً لاختلاف استعماله في البحوث الاجتماعية والدينية والدراسات الفلسفية ومجالات النشاطات الثقافية والأدبية وغيرها، ويمكن استخلاص مفهوم عام للاغتراب يدور حول عناصر متقاربة كشعور الفرد بالعزلة والانفصال عن الذات، والانطواء على النفس ،وعدم القدرة على مسايرة الآخرين، والعجز عن التلاؤم معهم والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع وعدم الشعور بالانتماء. وظاهرة الاغتراب قديمة قدم الإنسان ، إذ يمكن للباحث أن يتتبعها في كل العصور، وفي مختلف المجتمعات؛ فكلما توافرتالعوامل والأسباب المهئية للشعور بالاغتراب نفسياً واجتماعياًووجودياً، ازدادت حدته ومجال انتشاره. ويمكننا تمييز مسارين رئيسيين في أدب الاغتراب الحديث؛ يشدد الأول على تجربة الاغتراب بحد ذاتها كتأثير من المستحيل تجنبه ،مع إمكانية كونها تجربة حسنة، أما المسار الآخر فقد عد الاغتراب مفتاحاً للحقيقة والطبيعة الخفية في عصرنا الحديث . فإذا انعطفنا نحو الشعر العربي، سنجد أنّ انعكاس الاغتراب على الشعراء بات طردياًمع تعقيدات الحياة، حيث ظهرت في نتاج بعضهم صور شتى للاغتراب ، منها:غربة المُثل حيث يحس الشاعر أنه لا يستطيع أن يتواءم مع الواقع المعيش، وغربة الفشل حين يعجز الشاعر عن مجاراة عصره ومجتمعه ، والاغتراب الإبداعي حين ينفصل الشاعر عما كان قد أبدعه من نتاج شعري في فترة سابقة من حياته الفنية، واضطر لأن يسلك اتجاهاً شعريا جديداً. لقد اتخذت الغربة عند الشعراء أنماطا عدة: فكرية ، ونفسية، واجتماعية، وسياسية، وعاطفية ،ومكانية ،وروحية حيث سعى الشاعر إلى تجاوز الاغتراب، أو التخفيف من آثاره ،من خلال منهج تعويضي،تمثل في العودة إلى الطفولة، واستعادة الماضي وبناء المدن الخيالية،فامتلأ شعره بغربة تبدو متلازمة له طوال حياته، إذ لم يكن لديه من الأمل ما يزجيه على مواصلة الحياة. كما كان للرواية أيضا نصيب واسع في مناقشة هذه الظاهرة، فلم تخل الأعمال الروائية الصادرة منذ الخمسينات وحتى اليوم من تصويرات حادة لأزمة الشخصية الاغترابية بنماذجها المختلفة، كما نراه في عدد من روايات "نجيب محفوظ"، و"جبرا إبراهيم جبرا"، "محمد عبد " وغالب هلسا" ، وحليم بركات"، والطيب صالح"، وصنع الله ابراهيم" ..وغيرهم ومن يقرأ رواية "توفيق الحكيم" (نهر الجنون) ، يلاحظ أنها تعالج ظاهرة الاغتراب بطريقتها الخاصة، فالشخص الذي كان يشرب من ذلك النهر ، يصاب بلوثة تجعله يبدو غريبا في نظر المجتمع الذي كان يهزأ منه وينبذه ويبتعد عنه، وبمرور الزمن تزايد عدد الشاربين المجانين وتناقص عدد العقلاء وانقلبت الآية وتغيرت الأوضاع وأصبح العقلاء قلة تعرضت لسخرية الأكثرية المجنونة، وفي الأخير شرب الجميع من النهر وتحولوا إلى مجانين، ليندمج الكل في مجتمع واحد. إن الاغتراب ظاهرة بارزة لها حضورها الواضح في أدبنا العربي الحديث عامة: شعرا ونثرا، فقد جمع العصر بين كثير من المتناقضات التي أنتجت أزمات مختلفة سياسية واجتماعية وفكرية وأخلاقية، أدت إلى حدوث صدمة هزت المبدع العربي، وكان لها تأثيرها البالغ عليه فعكست التجربة الأدبية ألوانًا من الشكوالقلق المسيطرعلى الإنسان، كما عكست صورا من انعدام الثقة لدى المبدع في واقعه. أستاذ الأدب والنقد المساعد ##