وقد أتاح تعدد أبنية السرد وتنوعها، المجال واسعاً لقراءات نقدية متعددة، وربما لتأويلات متعارضة أو متناقضة. ويري عزيز الماضي أن تعدد القراءات والتأويلات لهذا النمط من الروايات، سيبقي شاهداً علي صورة المجتمع العربي في نهاية القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، فهي صورة لمجتمع مفكك مترهل مبعثر. تمزج رواية "هي وضحي" أو حكايتا هي وضحي، كما تسميها الكاتبة دنيا كمال، بين نوعين من الرواية، رواية السيرة الذاتية، والرواية الغيرية، فهي من جانب، تصور الوقائع والأحداث التاريخية بموضوعية، مع محاولة لتقديم تفسيرات جديدة، للماضي والحاضر معاً، ومن جانب آخر، تنخرط في سرد فني، تستلهم فيه أساليب قديمة وحديثة، تستقيها وتوظفها باقتدار، كاستخدام فن السيرة، وفن الرواية التاريخية، ولكنها لا تكاد تخطو خطوات نحو القص التقليدي، حتي تبتعد عنه خطوات، لتوظف أساليب فنية حديثة، مثل التداعي وتيار الوعي والتذكر، كما تستند إلي الرموز المنوعة، سواء كانت في شكل أنماط أدبية؛ كرواية كافكا، ومسرح شكسبير، وأشعار شيلي، وغيرها، أو الاعتماد علي النسيج اللغوي، ضمن عبارات قصيرة، لتخلق سخرية ناعمة، تتجلي في تعدد مستويات اللغة. تعتمد الرواية علي حكايتين، ولذا، يجب الوقوف قليلاً عند مصطلح "حكاية"، فذلك هو النمط الفني الذي اختارته الكاتبة، لتصب فيه عملها الإبداعي، وهو أقرب للسير الشعبية، منه للعمل الروائي، فهي لم تر أن عملها ينتمي للرواية، بالشكل الأدبي المتعارف عليه، كما أشارت هي لذلك، وقد يتفق معها المتلقي، وقد يختلف، ولكن الشيء المؤكد، أن الكاتبة استطاعت أن تحقق جانباً كبيراً من جماليات التلقي، وهي أهم أداة يمتلكها الأديب، تقول: "هي قصة لا تحتوي علي سياسة ولا مخدرات بأي كمية، ولا جنس، ولا عمارات عتيقة تحمل أسامي أرمينية، ربما تكون مجرد صفحات من الرغي، بشر يتكلمون عن حياتهم وحياة الآخرين"، وقد أشارت لعمارة يعقوبيان للأسواني، الذي اعتمد فيها علي جماليات المكان، كما تخيرت لفظة "رغي"، وهي عامية، ولم تشأ أن تستبدل بها كلمة: "ثرثرة"، ربما أرادت أن تعبر بصدق، عما بداخلها تجاه هذا النمط الفني من السرد. اعتمد السرد علي صوتين، كل منهما استخدم ضمير المتكلم، ففي جزء "هي"، نراها تتوجه بالحكي لشخص غائب، علي سبيل التداعي، فهو الحبيب الذي لم يظهر في الرواية، هي فتاة تخطت العقد الرابع من عمرها، لم تستطع أن تأخذ قراراً مصيرياً، قط، في حياتها، واقتصر دورها علي الانسياق وراء هذه الحياة، المدفوعة دفعاً نحو هدف محدد، صنعه لها والداها، فالأب شديد التأثير في ابنته، وهي تؤمن بكل ما يقوله، والأم متسلطة، صارمة في أوامرها، وبين الاثنين، ظهرت فتاة متخاذلة سلبية، فاقدة الثقة بقدراتها، تخشي أن تتخذ قراراً، بالرغم من وصولها لأعلي درجات التعليم؛ فهي أستاذة جامعية تدرس الأدب الإنجليزي لطلبة الكلية، تقتصر حياتها علي شيئين: الأول: تدريس مسرح شكسبير، كما تلقته من أساتذتها، دون أية محاولات منها لإضافة رؤي جديدة، ودون أن تسمح للطلبة بالتدخل بآرائهم النقدية حول بعض المواقف الدرامية وبعض الشخصيات، برغم اقتناعها بأن أي نص أدبي يقبل تعدد التفسيرات والتأويلات، ولكنها تعودت علي إطاعة الأوامر دون مناقشة، والثاني انتظار دائم للحبيب الغائب الذي لم يعد، ولن يعود، ومع ذلك، لن تكف عن انتظاره، وكأنه "انتظار جودو"، لصمويل بيكيت، ولذا، نري استاتيكية للأحداث، فهي لا تنمو بشكل تراكمي، ولكنها تتجاور وتتعدد دون تغيير، فلا نحس تطورا في الزمن، ولا في البناء السردي، بعكس حكاية ضحي. وضحي إحدي تلميذات صاحبة الحكاية الأولي، وتشترك معها في دراسة الأدب الإنجليزي، وتدريس مسرح شكسبير للطلبة، إلا أنها تمتلك إرادة حرة، لم تأت سيرة أسرتها في الحكاية، إلا لماما، وذلك رمز لعدم تدخلهم في حياتها، فتكونت لها شخصية مستقلة، تستطيع اتخاذ أصعب القرارات في الحياة، تسمح بمناقشة الطلبة، وباعتراضهم علي بعض المواقف، وتدخل معهم في جدل فني حول العمل الإبداعي، سواء لشكسبير أو شيلي أو غيرهما، وهكذا، تعتمد الكاتبة في عرض قصتها علي بنية المفارقة، فحين تنساق الفتاة الأولي وراء حياتها، دون تدخل إيجابي منها، تصنع الثانية حياتها بنفسها، دون السماح لتدخل الآخرين في شؤونها، فتقرر السفر لبلد أوروبي لم تفصح عن اسمه، وبعبارة دالة، اتضح أنها إسبانيا، تقوم هناك بتدريس الأدب الإنجليزي للطلبة العرب فترة، ثم تقرر العودة للقاهرة، مع أول عطلة دراسية تحصل عليها، تدرس لطلبة القاهرة منهجاً تختاره هي، ولتكن تاريخيات ودراما شكسبير، وتعرفهم علي جرامشي وتعريفه للمثقف، ومصطلح المثقف العضوي، والفرق بين تعريفات كل من جرامشي وفوكو وإدوارد سعيد للمثقف، وتحديد دوره، تدرس لهم قصائد شيلي، وتتناقش معهم فيها، تختار لهم قصيدة "السيدة شالوت"، للشاعر الإنجليزي: ألفريد لورد تينيسون، ويلاحظ في اختيار القصيدة دلالة للحكاية الأولي، حيث حرصت الكاتبة علي وصل الوشائج بين الحكايتين، بل كان اعتمادها علي بنية المفارقة، أعظم رابط بينهما، تماماً كما يعرف الأبيض بالأسود، والخير بالشر، وهكذا، تتخذ السيدة شالوت مجلسها بجوار النافذة، ترفض الاندماج في العالم الخارجي، لأنها لم تعتبر نفسها جزءاً منه، وبالتالي، يرفضها العالم، فهي لا تراه إلا من خلال مرآة بجانبها، تنعكس عليها خيالات البشر وحركاتهم، وعندما تحاول الاندماج في العالم، تقوم العواصف، تعبيراً عن رفض الطبيعة لها، لأنها ليست جزءاً من عالم الأحياء، والدلالة واضحة في القصيدة، تختار ضحي كافكا وقصصه الكابوسية، ليكون موضوع رسالة الدكتوراه، ثم تتمرد علي الموضوع، بعد وقوعها في حب حسن، المصور الإعلامي الذي أحست بأهمية وجوده في حياتها، من أجل استمرارها في البحث والدراسة، بروح إيجابية مرحة، فحرصت علي الاتصال به يومياً، فقط، لسماع صوته، فذلك الاتصال كفيل بمنحها طاقة جبارة للعمل طوال اليوم، توهمت أنها تعمل طوال اليوم لقتل الوقت، حتي يحين موعد لقائها بحسن، ولكنها اكتشفت بعد ذلك، أن قتل الوقت بالعمل، هو الشيء الأساسي في حياتها، بينما حسن شيء حلو يضاف للحياة، فيفيض عليها بهجة، وكأنه وقود شعلة الإبداع، لتظل مشتعلة، أو هو الرحم الذي تستمد منه طاقتها الإبداعية، وقد تأكد لها ذلك، حين تقاربا جسدياً، للمرة الأولي، فلم يزدها ذلك إلا رغبة في استمرارها فيما اختارته، ومن المفارقات التي اعتمدت عليها الساردة، ذكرها قصة إميل حبيبي: "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، وهي رواية تعتمد، في الأساس، علي بنية المفارقة، بدءاً بالعنوان، مروراً بالموضوعات والصور الوصفية والسردية، وانتهاء بالنسيج اللغوي والبناء الفني، بل يمكن القول بأن توليد المفارقة، صفة مميزة من صفات روايات إميل حبيبي، حيث تتباين فيها الحقيقة والمظهر، مع التأكيد علي أن العلاقة بين الحقيقة والمظهر، ليست علاقة تشابه أو لا تشابه أو تعادل، بل هي، كما يري فريدريك شليجل: "علاقة تعارض أو تنافر أو عدم اتساق أو "توتر الأضداد"، كما يطلق عليها، وبهذا المعني، فإن الوظيفة الرئيسية لأدب التمرد، هو أن يكون أداة التوازن التي تبقي الحياة متوازنة، فكل ما تطمح إليه الفتاة الأولي، هو استمرار حياتها لنهايتها، دون تغييرها، خوفا من السقوط، أو فقدانها، وسعيد المتشائل في رواية حبيبي، إنسان دون العادة، بجبنه وتخاذله ونذالته، وهي صفات حددتها "هي"، بقولها: "حياتنا شبكة معقدة من العلاقات والذكريات..فلا أبغي شيئاً من الحياة سوي أن تكون جزءاً منها"، وتتساءل عن تلاميذها: "هل أضيف لهذه العقليات أي شيء ملهم؟" وقد اهتمت بشخصية "هاملت"، لأنها شخصية دائمة التردد: "هاملت يتكلم كثيراً ولا يفعل شيئاً، هو لا يجرؤ علي الانتقام..هاملت شخص متردد، والمتردد لا يصلح للحكم"، وحين طلب منها الآخرون إسداء النصح لتلميذتها شادن، التي انساقت وراء وهم ظنته حباً، لقلة خبرتها بالحياة، تقول: "من أكون أنا حتي أنصحها"، وكانت النتيجة انتحار شادن بعد اغتصابها ممن أحبت، وتري في الأحلام المعادل الموضوعي لحياتها المفقودة، ولذا، فهي تلجأ دائما للحلم لتعويض النقص الواضح في شخصيتها: "يمتليء نومي بالأحلام..غالباً أتذكر تفاصيل أحلامي التي لا تتحقق أبداً"، وقد اعتمدت الكاتبة علي تعدد مستويات اللغة، من أجل تحقيق تيمة المفارقة في الرواية، فبالرغم من انتماء شخوص الرواية لشريحة واحدة من المجتمع، وهي شريحة الطلبة والمثقفين، إلا أنها جاءت بلغة عالية أحيانا مثل: "مازالت مذبحة مزرعة الموز تحتل تفكيري بأكمله، وكيف تنمحي مذبحة كاملة من كتب التاريخ"، وبألفاظ سوقية أحياناً أخري، مثل قول إحدي الشخصيات: «عمل له ديوان شعر وعاش شوية في دور الشاعر وهو حمار..» . اهتمت الروايتان اهتماماً كبيراً بالمادة التاريخية، وذلك لأمانة التذكر، أو "للأمانة الأدبية"، كما تقول علي لسان الشخصية الأولي، فجاءت الأحداث في إطار الحقيقة الخالية من الكذب، لدرجة حشوها بتفاصيل لا علاقة لها بالحدث الرئيسي، فلا تصب بالتالي في إثراء المضمون، كما تعمد أحياناً إلي مزج الوقائع والأحداث التاريخية، بعنصر الفكاهة والسخرية، فتدمج المأساة بالملهاة، في محاولة لنقد الواقع المعيشي وإدانته، كتسميتها مثلا إحدي طالبتها: بكارهة شيلي، أو التعليق علي مداخلة من إحدي الطالبات عن السيدة شالوت بأنها تتحدث عن الست أم أحمد، وبهذا، تكتمل المفارقة في الأحداث، وكما يقول أ. ر. تومبسن: "إن المفارقة لا تكون مفارقة إلا عندما يكون أثرها مزيجاً من الألم والتسلية"، وأخيراً، تعد رواية "هي وضحي"، قيمة فنية أصيلة وجديدة، تجسد توازناً دقيقاً، بين الضرورة الفنية والتفسير الاجتماعي، ووعياً بالتراث الغربي والعربي معاً، وبحثاً دؤوباً عن العنصر الإنساني وسط الركام.