وقبل 44 عاماًً نشرت آخر ساعة في عددها الصادر في 14 يناير 1955 خبراً مماثلاً تحت عنوان " آخر ساعة تحصل علي سر مثير وراء اختلاسات البريد..! ": إن قصة عنايات علي صالح غانية باب الشعرية التي اختلس وهيب جرجس صالح وكيل مكتب بريد الشرابية من أجلها مبالغ تزيد علي ستة آلاف جنيه لم تنته بعد ! وفي أوراق التحقيق أن علاقة عنايات بوكيل مكتب البريد بدأت في أغسطس سنة 1954.. ويقول زوجها إنه تركها من نوفمبر سنة 1953.. ولكنه لم يطلقها بصفة رسمية إلا في إبريل 1954.. وقد فوجئ أن مطلقته حملت وأنجبت الطفل الذي سمته باسم عشيقها في نوفمبر 1954.. ثم نسبته إلي زوجها.. فأصبح اسم الطفل وهيب أنور عبد العزيز.. ويؤكد الزوج أن الطفل ليس ابنه ، ولما كان وكيل مكتب البريد مسيحياً ، وعنايات مسلمة ، فقد أصبحت المسألة شائكة.. فالزوج يبرأ من الطفل.. ويقول إن عنايات نسبته إليه زوراً.. ومن غير المعقول أن يعترف بطفل يحمل اسم عشيق زوجته السابقة ! وتستكمل آخر ساعة..لقد بدأت قصة غرام عنايات ووهيب جرجس في أول أغسطس الماضي.. بدأت بالتعارف في أحد الأفراح.. فقد كانت عنايات تعمل كراقصة من الدرجة الثالثة.. ثم تطورت العلاقة !! غرام عنيف.. فهجر وكيل البريد منزله واستأجر شقة في منطقة حدائق القبة لعنايات..ثم اشتري لها سيارة أوبل أوليمبيا بمبلغ 800 جنيه.. وظل وكيل بريد الشرابية يختلس أموال المودعين بأن يحصل علي إمضاءاتهم ثم يحرق دفاتر المودعين.. وعندما قُبض عليه بعد هروبه ، وجده رجال البوليس بالبيجاما والروب في الشقة التي استأجرها لعنايات بحدائق القبة.. وقالت عنايات إنها لم تكن تعلم عن أحواله المالية شيئاً.. ولقد كان وهيب جرجس يرتكب اختلاساته من أموال المودعين الأميين الذين لا يقرءون ولا يكتبون.. ويقول الزوج أنور عبد العزيز إنه كان يعلم أن زوجته علي علاقة بوهيب جرجس.. وإنه عندما طلقها قامت برفع دعوي تطالبه فيها بنفقة شرعية فحكمت لها المحاكم بمبلغ سبعة جنيهات في الشهر.. ولما رُزقت بهذا الطفل ونسبته إليه زوراً رفعت دعوي ثانية تطالبه فيها بنفقة أخري للطفل ! وليست عنايات أول فنانة يختلس من أجلها أحد الموظفين ستة آلاف جنيه.. فقد سبق أن اختلس موظف في الدرجة التاسعة بوزارة الصحة عشرات الألوف من الجنيهات من أجل نجمة السينما المشهورة كاميليا.. وقد كان أحمد شكري عشيق كاميليا يرأس عصابة خطيرة من موظفي الدولة يكونون شبكة كبيرة في عدة وزارات.. فقاموا باختلاس مبالغ طائلة قُدرت بنصف مليون جنيه ! وتضيف آخر ساعة أن أول فنانة اختلس من أجلها أحد الموظفين مبلغ عشرة آلاف جنيه ذهب هي الراقصة المشهورة شفيقة القبطية.. ويقول الذين عاصروها إن الموظف المختلس كان يعمل صرافاً بوزارة المالية.. كما يقولون أنها اكتشفت قصة اختلاسه في اللحظة الأولي.. فأبلغت عنه البوليس وقُبض عليه في المقهي الذي كانت تديره لحسابها.. وفي سنة 1935 اختلس موظف بوزارة الأوقاف مبلغ عشرة آلاف جنيه ليصرفها علي الراقصة ببا عز الدين وكانت تفتح كازينو باسمها في شارع عماد الدين.. وهذا الموظف اسمه عباس عرفي.. وقد قُبض عليه وأمضي مدة العقوبة في الليمان وعندما خرج كانت ببا قد اشترت كازينو أوبرا من بديعة مصابني.. فزارها عباس عرفي مرتين.. وفي المرة الثالثة طردته من الصالة! ولا أستعرض هنا أمثلة من تاريخ الفساد بغرض التأصيل لظاهرة الفساد ، أو للتأكيد علي مقولة " من الحب ما قتل "، أو الصلاحية الدائمة للهاجس الأمني " ابحث عن المرأة ".. إنما أُذكر بحكاوي الفساد للإشارة إلي مدي تفاعل تفاصيلها مع متغيرات المجتمع الاقتصادية والتكنولوجية في مواجهة وقبول التحدي من جانب عناصر الفساد عبر العصور ، بل والتفوق في أحيان كثيرة علي العديد من الضوابط الأمنية ، والاحتياطات الإجرائية الحكومية ! الشفافية والمساءلة ويكفي أن نطالع في الفترة الأخيرة هذا القدر الهائل من الانتقادات الحادة التي وجهها خبراء التنمية الإدارية والبشرية ومكافحة الفساد للحكومات العربية ، والتي وصفوها بأنها عاجزة عن مكافحة الفساد ، وأن الاستبداد في إدارة المال العام أصبح سمة أساسية في المجتمعات العربية، خاصة في ظل سيطرة رجال الأعمال وأصحاب السلطة والنخبة السياسية علي مقدرات الدولة وأملاكها، مؤكدين أن الرشوة نسبية في المجتمعات العربية، فالموظف الصغير يأخذ عشرين جنيها بينما المسئول الكبير تصل رشوته إلي الملايين.. الشفافية والمساءلة مكونان أساسيان من مكونات الحكم الرشيد كما يعرّفه برنامج الأممالمتحدة الإنمائي. إن مفهومي الشفافية والمساءلة مفهومان متلازمان ، ويدعم كل منهما الآخر في إطار اتباع نظام أكثر فعالية لمواجهة تحديات منظومة الفساد التي تواصل تهديد التنمية البشرية ، والأمن الإنساني لملايين الناس في المنطقة العربية ولأعداد أكبر من البشر في مختلف أرجاء العالم. الشفافية عنصر رئيسي من عناصر المساءلة البيروقراطية يترتب عليه جعل جميع الحسابات العامة وتقارير مدققي الحسابات متاحة للفحص العمومي الدقيق. فالشفافية تقي من الاخطاء الحكومية، ومن ارتكاب خطأ في تقدير الموارد، ومن الفساد. ويعرّف برنامج الأممالمتحدة الإنمائي المساءلة علي أنها الطلب من المسئولين تقديم التوضيحات اللازمة لأصحاب المصلحة حول كيفية استخدام صلاحياتهم وتصريف واجباتهم، والأخذ بالانتقادات التي توجه لهم وتلبية المتطلبات المطلوبة منهم وقبول (بعض) المسئولية عن الفشل وعدم الكفاءة أو عن الخداع والغش. يجب أن يكون صناع القرار في الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني عرضة للمساءلة من قبل الجمهور، فضلا عن مسئوليتهم أمام أصحاب المصلحة في المؤسسات المختلفة. وتتفاوت العمليات التي تضمن حصول المساءلة تبعا لنوع المؤسسة أو المنظمة وما إذا كانت عملية صنع القرار تتخذ في داخل المؤسسة أو تأتي من خارجها. في يوم الجمعة 31 أغسطس 1925 نشرت الجريدة الأسبوعية المصرية "كشكول " مقالاً افتتاحياً حول عزل محمد سعيد باشا من القوامة علي صاحب السمو الأمير أحمد سيف الدين بقرار من مجلس البلاط ، وذلك لأنه استولي لنفسه من مال الدائرة علي مبلغ اثنين وأربعين ألف جنيه وأودع تحت يد الصراف إيصالات بها ، وكلما طولب بالوفاء عجز عن الرد وطلب أن تقسط عليه فلم يجب المجلس إلي ذلك وأعطاه المهلة التي طلبها للسداد ثم أصدر القرار السابق ذكره.. ويعلق المحرر " نحن لا تدهشنا فداحة المبلغ الذي أخذه حضرة صاحب الدولة لنفسه فقد ألفنا مثل هذه الحوادث تقع في كل زمان ومكان من أناس لا خُلق لهم وصلوا بالحيلة والرياء والملق إلي أن يكونوا صيارفة في مختلف المصالح الأميرية والبيوت المالية أو وكلاء لدوائر فريق من كبار الذوات وأغنياء السيدات بقدر ما يدهشنا ويذهلنا صدور هذا العمل من رجل كان وزيراً للحقانية ورئيساً لوزراء المملكة بالأصالة مرتين وبالنيابة مرة في وقت كانت فيه هذه النيابة فيما يزعم الزاعمون ويعتقد الواهمون تمثل الأمة كافة والبلاد جمعاء وتقوم لدي الأمم الراقية والشعوب المتمدنة رمزاً علي كفاءة المصريين لحكم أنفسهم وعنواناً لما يستحقونه من مكانة عالية تحت سماء الحرية والاستقلال ".. مغطس الخضيري وينهي الخبر معرباً عن دهشته لارتكاب الأثرياء مثل هذه الجرائم وأضاف المحرر " إن الوفد كان - للأسف - ملجأ الآثمين وبؤرة المعتدين وهو في نظرهم وعقيدتهم " كمغطس الخضيري " عند العامة ينفس فيه ذوو العاهات والعلل أوجاعهم يتلمسون فيه الشفاء من الداء العضال فيخرجون منه وقد تركوا فيه من جراثيم أمراضهم وحملوا منه ما لم يكن بهم من أدواء وأوباء".. والسؤال: هل مغطس الخضيري مازال موجوداً ؟! وأي مغطس عبقري يمكن أن يحتوي هذا الكم الهائل المتزايد من جراثيم تلك الشرور ؟ والسؤال الأهم: إلي أي حد يمكن استنساخ ذلك المغطس بطول البلاد وعرضها لتضم من جديد ما ترتكبه أيادينا في حق أنفسنا والوطن ، ولكن بالطبع بعد تنقيتها بصفة دائمة حتي لايخرج منها أبطال جدد لحكاوي الفساد ؟ لقد لفت انتباهي إعلان وزارة الدولة للتنمية الإدارية بالأمس القريب نتائج الدراسة التي أعدتها كلية الآداب جامعة القاهرة بمشاركة مركز دعم واتخاذ القرار بمجلس الوزراء حول تحليل أسباب الفساد الإداري ودوافعه علي المستويين الاقتصادي والاجتماعي.. أكدت الدراسة أن 80.9% من المصريين يرون أن أخلاق الناس تغيرت هذه الأيام ، وأن 83.6% من المصريين يرون أن الفساد زاد في مصر ، أكدت الدراسة أن غالبية رجال الأعمال ذوي السلطة هم الأكثر فساداً في المجتمع بنسبة 43.1% يليهم التجار ثم رجال الشرطة وأعضاء المجالس المحلية ، ويأتي في المرتبة الأقل فساداً في المجتمع رجال الدين الخاضعون للحاكم ، وجاءت المصالح الحكومية ذات الطابع الخدمي حسب الدراسة في المرتبة الأولي لأكثر المؤسسات فساداً في المجتمع وتليها مؤسسات قطاعي الصحة والتعليم ثم الإعلام والداخلية والمحليات.. د. أحمد درويش كنت قد التقيت د. أحمد درويش وزير الدولة للتنمية الإدارية وأعجبني مدي طموح الرجل الذي يتناسب مع نجاحه في إنجاز العديد من مشروعات استخدامات وتطوير تكنولوجيا المعلومات حتي لُقب بمهندس الحكومة الإلكترونية ، وأقدر للوزير عدم التورط في إصدار قرارات وقوانين رئيسية دون قياس الرأي العام كما يحدث علي سبيل المثال في وزارتي التعليم العالي والتربية والتعليم..والدليل لقد حرص الوزير عند إعداد قانون الوظيفة الجديد أن يسمع كل وجهات النظر من كل مؤسسات الدولة والخبراء وتراجع عن عرض القانون علي مجلس الشعب لحين استكمال استطلاع الرأي.. وفي مجال محاربة الفساد كانت هناك محاولات بداية من إصدار كُتيب " الرشوة " ( رغم التحفظ علي مدي أهميته ) وصولاً إلي تشكيل لجنة للنزاهة والشفافية وإن كان قد تم التحقيق مع أحد أعضائها في قضايا فساد !! وكانت وجهة النظر الأساسية لوزارة د. درويش فصل طالب الخدمة عن مؤديها عبر استخدام النظم الإلكترونية ، والحقيقة أنه ورغم وجاهة الطرح والتوجه إلا أن نصيب تنفيذها ما زال محدود الأثر والقيمة رغم مرور فترة طويلة علي الشروع في وضع الطرح محل التنفيذ عبر استخدام مواقع إلكترونية للحكومة.. لقد أكد خبراء الشفافية ان مشكلة الفساد أصبحت وسيلة لتسيير الأعمال وأن هناك نظرة عامة بأن المعاملات الحكومية لا يمكن لها أن تنجز من دون أساليب تنطوي علي الفساد الإداري مثل المحسوبية والرشوة وغيرهما. إن التحدي الأكبر للقضاء علي الفساد هو إقناع الناس بالكف عن استخدام الوسائل غير الأخلاقية لتسيير الأعمال واعتبارها من المسلمات في التعاملات اليومية ، وتوجيههم لاستخدام الأدوات القانونية الواضحة والشفافة لذلك عبر مناخ جديد وثقافة جديدة تتكاتف فيها كل أجهزة الدولة ومؤسساتها . واللوم الأكبر علي الحكومة بصفتها صاحبة القرار الأول في صياغة شكل الهيكلة الإدارية ، بعد وضع الوصفة الناجحة من قبل خبراء الإدارة وأصحاب قصص النجاح محلياً وعالمياً.. في القطاع الحكومي يجد الموظفون الجدد المناخ جاهزا ومهيئا للانفلات.. زملاء قدامي يمارسون أفعال التسيب المالي والإداري في فوضي وتساهل.. نظم إدارية لإدارة إجراءات مالية بها العديد من الثغرات قديمة ولا أحد ينتبه للتغيير والتصويب.. أجهزة رقابية تُحاسب بعد ارتكاب المخالفات ولا توجد آلية لمنع الانفلات قبل حدوثه.. جهاز مركزي للمحاسبات يكتفي بإرسال تقارير بالمخالفات.. لا شك أن فتح النوافذ ليدخل منها هواء الحرية حتي يتنفس الناس هواء متجددا أمر يبعث علي الأمل في أن تتقلص مساحات العفونة وتختفي بالتدريج الروائح الكريهة التي باتت تزكم الأنوف وتمنع عن الناس حلم أن يحيوا في سكينة وهدوء وسعادة.. من أعظم فوائد السماح بدخول رياح الديمقراطية إلي أي مجتمع إعانة الناس علي كشف مناطق الضعف التي تشكل تربة صالحة لنمو آليات الفساد وظهور صناعه ، ومناخ مُحفز علي مواصلة دورهم التخريبي الهادم لكل أعمدة البناء والتشييد ، والمحبط لأمل وضع أسس معمار التقدم.. أكرر إننا في حاجة لعشرات من مغطس الخضيري لنغتسل فيه ونبرأ من علل الفساد مع الحرص علي تنقيته باستمرار أملاً في الشفاء لبناء مجتمع من الأصحاء..