عندما قرأت مقالة الأستاذ الدكتور علي الدين هلال في الأهرام بتاريخ 6 / 2 بعنوان " لماذا لا ننتقد أنفسنا ؟ " شعرت بنوع من الارتياح والثقة، وربما التفاؤل. فعلي الرغم من أن صفة الدكتورهلال الأكاديمية، تغلب عندي علي صفته الرسمية، بحكم استاذيته لي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، إلا أن مبعث ثقتي وارتياحي هو أنه مسئول رسمي، من الحزب الوطني الديمقراطي، يدعونا إلي ممارسة النقد الذاتي، وإشاعة ثقافة النقد في المجتمع المصري، مشيرا، من وجهة نظر سيادته إلي " العزوف الاجتماعي والسياسي عن ممارسة النقد، أو مواجهة الآخرين بأخطائهم، وحتي عندما يتم تشخيص الأسباب التي أدت إلي وقوع الحادث أو الخطأ فإنه لا يتم تحديد المسئولية السياسية أو الأخلاقية عما حدث.. " وكما يقول الدكتور هلال، فمن " الملاحظات علي سلوكنا العام هو العزوف عن توجيه الانتقاد أو اللوم علنا عند حدوث خطأ أو حادث كبير يترتب عليه خسارة مادية أو بشرية كبيرة، ونكتفي بتحويل الموضوع إلي التحقيق القانوني والقضائي. " ومنذ الوهلة الأولي، فقد تبادر إلي ذهني السؤال الأساسي وهو: ما هي حدود وأطراف توجيه النقد التي يقصدها المقال، بمعني (من ينقد من؟) وما هو موضوع النقد المقصود علي وجه التحديد وعلي أي مستوي؟ وفي هذا الصدد فإن مقالة الدكتور علي الدين هلال كانت شاملة، وتناولت مستويات متباينة للنقد الذي قصده. فهناك النقد الذي يمكن أن يوجهه رئيس الدولة لأي من أجهزة الدولة. وهناك أيضا النقد الذي يمكن أن يوجه إلي السياسات المنفذة إذا أخفقت في تحقيق الأهداف المنشودة، وقد يوجه النقد، حسبما ذكر المقال، إلي الوزراء، وما يتخذونه من اجراءات أو قرارات. إلا أن المحور الذي دارت حوله أفكار المقال، بدرجة أساسية هو تقييم الموقف بالنسبة للسلطة التنفيذية، والمواقف التي تحجم فيها الحكومة عن "الاعتراف بالخطأ". أسباب محتملة كانت رؤية الدكتور هلال محددة بالنسبة للأسباب المحتملة، التي رأي سيادته أنها تجعل المجتمع والحكومة تفتقدان إلي خصيصة توجيه النقد الذاتي، والاعتراف بالخطأ وهي: 1- ارتباط الخطأ في ثقافتنا بمفهوم "العيب"، لذلك يرفض الإنسان الاعتراف بالخطأ. 2- إن الاعتراف بالخطأ أو توجيه الاتهام لسياسة ما يمكن أن يعني أو يكون مقصودا منها تغيير الوزير. 3- إن شخصنة السلطة، يؤدي إلي الربط بين الموقع الوزاري، وشاغله، والسياسة التي تتبع في مجال معين. وفي المحصلة يؤكد الدكتور هلال صراحة أن (المطلوب هو مواجهة أكثر صراحة وشجاعة في تناولنا للأمور العامة، وأنه عندما يحدث خلل أو كارثة اجتماعية أو طبيعية، فإن الأمر يتطلب إعلان الأسباب والظروف التي أدت إليها، وتحديد جوانب القصور في التشريعات والمؤسسات، والإجراءات التي أسهمت فيها... ) ومن المؤكد أن ممارسة النقد هي خصيصة ضرورية لكل مجتمع، فالمجتمع الذي يعترف ويسمح بالنقد هو مجتمع قوي، يصحح أخطاءه، ويحترم الرأي الآخر، ويتحمل أفراده المسئولية عن أعمالهم، في إطار عملية مستمرة من تصحيح المسار، والسعي للوصول إلي أفضل النتائج الممكنة. أما في الحالات التي تتعطل فيها آلية النقد، فإنها تعني استمرار الأمر الواقع بدون تغيير، مهما كان فيه من أخطاء، كما تعني أيضا أن يحاول كل طرف من الأطراف تعليق أخطائه علي آخرين، والبحث دائما عن كبش فداء لتحمل مسئولية هذه الأخطاء. التقصير الشامل وفي الإطار العام يمكن طرح الملاحظات التالية : 1- أتفق مع الدكتور هلال في أنه لابد من التمييز بين اتخاذ وزير ما بأنه قرار خاطئ، وبين أن تكون السياسات التي تطبقها وزارته، هي نفسها غير مجدية في تحقيق الأهداف المنشودة. هذا، علما بأن خطأ الوزير ليس خطأ عاديا، وقد يؤدي إلي نتائج كارثية، ولذلك لا يصح أن يقال إن الوزير في النهاية بشر، وليس هناك من هو معصوم من الخطأ، وجل من لا يسهو، فكما أكد الدكتور هلال، إن القرارات والسياسات لا تصنع بين يوم وليلة، وأنه يقوم علي الإعداد لها عشرات الخبراء، والمستشارين. إذن، ليس من قبيل القرارات الخاطئة التي يمكن التسامح بشأنها ما من شأنه إهدار المال العام، وتوزيع أراضي الدولة، وبيع مصانع بأقل من قيمتها... الخ. 2- نفتقد في المجتمع المصري إلي ثقافة الاعتراف بالخطأ. وقد امتنعت الحكومة أو تلكأت في الاعتراف بالخطأ في عدة مناسبات منها أحداث نجع حمادي، وكارثة السيول، فلم يتم حتي الإقرار بالتقصير في اتخاذ ما كان من شأنه وقاية البلد من هذه الكوارث. إلا أننا نلاحظ أيضا التقصير، واللامبالاة من جانب الحزب الوطني الديمقراطي «حزب الأغلبية»، والأحزاب الأخري الرسمية، والتي يبدو في مناسبات كثيرة أنها غائبة، ولامبالية وغير معنية بالتفاعل والتجاوب مع الرأي العام في العديد من القضايا، وهذا الموقف نجده أيضا للأسف في تنظيمات المجتمع المدني، والمجالس والجمعيات الحقوقية، والتي يصعب أن يقال إنها تقف وراء توجهات الرأي العام وتسانده وتدعمه كما هو متبع في الدول الديمقراطية، وإلا أين رأي الأحزاب والتنظيمات الحقوقية في موضوع الضريبة العقارية مثلا؟! 3- من مشكلاتنا الأساسية في مصر التأخر في تقييم السياسات، التي تستمر لعدة سنوات، حتي بعد أن يثبت عدم جدواها، وفشلها في تحقيق الأهداف المرجوة منها. ومن ذلك: سياسة تنظيم الأسرة، وسياسة اللامركزية الإدارية، وسياسات خاصة بالتعليم، والصحة، والإعلام، وحتي عندما يتم اتخاذ قرارات بتغيير السياسات، يقال إن مرحلة جديدة بدأت مما يستدعي تطبيق سياسات أخري، بدون أن يقترن ذلك بتقييم دقيق ومفصل وسليم لأخطاء وتجارب ودروس السياسات السابقة، تجنبا لنسبة الأخطاء إلي المسئولين عن اقترافها . 4 - هناك حالة من تخاذل المواطنين في المطالبة بحقوقهم، وفي استطلاعات الرأي التي وردت في البحث الذي قامت علي رعايته وزارة الدولة للتنمية الإدارية جاء أن 4. 50 % يفوضون أمرهم لله، و40.4 % يقدمون طلبات حول ما يعتقدون أنه حقهم، و 3. 12 % يبحثون عن واسطة تساعدهم في نيل حقوقهم، و8. 5 % يدفعون رشوة اعتقادا بأن الأمور لن تسير لصالحهم بدون الدفع. 5 - إن إنعاش ثقافة النقد الذاتي في المجتمع المصري باعتبارها من أهم خطوات التغيير الإيجابي، يقتضي زيادة الوعي بالمصلحة العامة، وفي الاستطلاع المشار إليه يغلب المواطن المصري المصلحة الخاصة بنسبة 9. 38 %، مقابل 8. 9 % يفضلون المصلحة الشخصية مع المصلحة العامة، و 3. 6 % يهتمون بالمصلحة العامة. ولكن للموضوع جوانب أخري تتعلق بأن الطبيعة العامة للمصريين تميل إلي عدم معاداة الحكومة، بل الاتكال عليها لحل مشكلاتهم، وربط أرزاقهم بأن تكون الحكومة راضية عنهم، وليس ثمة حماسة لنقدها بقسوة، فالمثقفون ينعمون بحالة من الكسل والاسترخاء الفكري، والباقي يغلبون قاعدة خليها علي الله. فالمصري، علي الرغم من مشاكله، يساير الواقع، ويتكيف معه، وربما يمقت السلطة وقراراتها، ولكن في نفسه، أو يلجأ إلي النفاق، وفي بعض المستويات إلي الشعوذة والسحر، وزيارة الأضرحة. وليس خافيا أن المجتمع المصري يغلب عليه التدين، و الطابع التقليدي، والاعتدال، والواقعية، والقبول بالأمر الواقع، وبذل كل ما يمكن للمحافظة علي ما يعتبره من قبيل الاستقرار، ويفضل المصري أن يقول نكته يسخر فيها من نفسه ومن أحوالة علي أن يوجه النقد أو يغامر به، ويقال عن مصر أنها (الأمة الوسط). نماذج للنقد ويبقي السؤال، هل يفتقد المجتمع المصري تماما لثقافة النقد، وكشف المثالب، وتوضيح الأخطاء، وتجسيد العيوب والشوائب؟ الحقيقة أنه يصعب الإقرار بصورة مطلقة بهذه السمة، فهناك انتقادات، ومحاولات جيدة لإماطة اللثام عن الأخطاء والانحرافات والعيوب، وكشف ستر الجرائم، وإثارة الاهتمام بالتغيير، والتصحيح، ومعالجة السياسات وصولا إلي حياة أفضل وأكرم. ولكنها نماذج غير كافية، وربما غير قوية لإحداث "التغيير والإصلاح"، وبالتالي لا تؤدي إلي الاستجابات المطلوبة. دعونا مثلا نشير إلي نماذج من ذلك: .. النموذج الأول، يأتي من طرف يتحدث باسمي، وباسمك، وبلسان رجل الشارع المصري، أي أنه يعبر عن الرأي العام. إنه نموذج الأستاذ فاروق جويدة، ومقاله الاسبوعي في أهرام الجمعة، فالرجل اعتاد كتابة مقالة نقدية، تتناول رؤية تشريحية لمشاكل المجتمع المصري، ولنسمع الرجل يقول "حين فسدت برامج التعليم في المدارس والجامعات والمعاهد الدينية وارتفع الصراخ في المسجد والكنيسة، وتشوهت عقول الأجيال الجديدة أمام تشويه التاريخ، وإسقاط كل الرموز الوطنية والفكرية وحتي العسكرية - حين غاب الانتماء أمام الفقر والبطالة وغياب كل مظاهر العدالة الاجتماعية - حين غاب التاريخ الحقيقي واختفت الرموز العظيمة من حياة أبنائنا - في ظل هذه التركيبة الغريبة المشوهة ظهرت ثقافة مريضة تهتم بالمظاهر والمهرجانات والراقصات والتفاهات وتخاطب غرائز الناس وتبتعد بهم تماما عن الفكر الراقي المستنير. وبعد هذه صورة من صور النقد الذي يقطر مرارة، أعتذر عن تلخيصها وتكثيفها، فقط لأنه مما لايمكن تجاهله. 2 - النموذج الثاني للنقد جاء من جانب جهاز رسمي، مهمته أن يكون "عينا" واعية لمتابعة حركة المجتمع علي جميع المستويات. إنه "الجهاز المركزي للمحاسبات"، وكان أن فجر المستشار جودت الملط عدة قضايا بدءا من فشل المسئولين في الأجهزة الحكومية من مواجهة الكثير من الأزمات والمشاكل، ومساهمة بعض المسئولين في صنع الأزمات، والأمراض المزمنة التي تعاني منها الإدارة في مصر، وأزمة الثقة بين المواطنين والحكومة، وعجز المسئولين عن التعامل الصحيح مع وسائل الإعلام، وسلبية بعض أجهزة الدولة، وعجزها عن تسويق قرارات عادلة، وإحساس المواطن المصري بتجاهل المسئولين لهمومه، ومواجع المهمشين، ومحدودي الدخل. وبالطبع جاء نقد "الجهاز المركزي للمحاسبات" لأنه بنص الدستور والقانون عين السلطة التشريعية في إعمال رقابتها الدستورية علي النشاط الاقتصادي، والمالي للدولة، وتقييم آداء ونشاط الحكومة إيجابا وسلبا، ومراجعة تنفيذ السياسات الاقتصادية والمالية. 3 - النموذج الثالث للنقد، كانت ساحته مجلس الشعب، وكان أن طرح عدد من الأعضاء استجوابات عن تلوث الماء والغذاء والهواء، وما يعانيه الشعب من أمراض سرطانية خطيرة، واعتبار التلوث جريمة العصر، بالرغم من أن الدستور نص علي حماية البيئة باعتبارذلك واجبا قوميا ووطنيا. ولكن - مجلس الشعب أسقط الاستجوابات العشرة عن تلوث الماء والغذاء والهواء، وكأنها لم تكن. ولتسمحوا لي بأن أختم بملاحظة عابرة، بدون تعليق. ففي دولة الأردن، قدمت الحكومة الأردنية (اعتذارا لمواطنيها) عن الأخطاء التي رافقت الإعلان عن نتائج الثانوية العامة، وهي الأخطاء التي أدت إلي إرباكات للأهالي، سحبت معها وزارة التربية النتائج بعد إعلانها علي المواقع الإلكترونية. هذا، (علما بأن الأخطاء التي وقعت في إعلان نتيجة الثانوية العامة، لم تؤد إلي أي ضحايا أو إصابات، أو مشردين) .