نشأ الفن المفاهيمي في الغرب نتيجة أسباب متعددة ربما لملل المبدع من الإطار التقليدي للعمل الفني، ولتحول مفهوم الجمال الفني لجمال الفكرة أو التعبير عنها حيث تعتبر الفكرة التي ينطوي عليها الفعل الفني أو يطرحها أكثر أهمية من الموضوع، وأيضاً لمسايرة التطور النوعي التكنولوجي بسبب التأثير الطاغي للاكتشافات العلمية علي جميع الجوانب الحياتية ومنها الجانب التشكيلي، وهنا يأتي تغيير المصطلح من فنون جميلة أو تشكيلية إلي فنون بصرية Visual Arts. وتعود جذور الفن المفاهيمي للحركة الدادائية الجديدة سواء في أوروبا أو أمريكا في مطلع القرن العشرين، ثم تأصل المفهوم في الستينات مرسخة أن الفن يقوم أساسا علي ترجمة الفنان فكرته باستخدام أي وسيط يراه مناسبا للتعبير عنها، والحرية في اختيار أي نوع من الخامات التي تخدم الفكرة، من دون التقيد بالأسس الفنية التقليدية والمألوفة، علي أساس أن العمل الفني ليس منتجا جماليا، بقدر ما هو منتج فكري مترجم تشكيلياً..!! لذا يمتنع الفنان المفاهيمي عن تقديم عمله الفني كسلعة ممكن الاستفادة منها عن طريق بيعها في سوق الفن، بل يعمد إلي إبراز الواقع كقيمة جمالية، فالأساس أن العمل الفني هو الفكرة والمفهوم دون تجسيد لأي نظرية، كما أنه متحرر من المهارة الحرفية، أي أن الفكرة تصبح الهدف الحقيقي والفعلي، بدلا من العمل الفني نفسه. ورغم أن الاتجاهات الفنية المفاهيمية تجتاح العالم وتتمدد في كل الاتجاهات الأربعة، إلا انها لم تستوطن بعد في العالم العربي وذلك لاختلاف السياق الثقافي والاجتماعي، ومازالت مجرد ضيف مؤقت يبحث له عن مكان ..!! فالاتجاهات الفنية المعاصرة قد ظهرت في أوروبا وأمريكا في إطار حالة من النمو والتطور الطبيعي للسياق الثقافي والاجتماعي الذي بدأت ملامحه منذ البدايات المبكرة لعصر النهضة الأوروبية، وتشكل ووضوح السمات المحددة للثقافة الأنجلوسكسونية التي تدعو الي البحث والتجريب بشكل دائم وإختبار كل الحقائق ووضعها موضع التساؤل، فكل شيء قابل للتغير والتبدل .. فلاوجود لما هو ثابت أو مقدس، فالطبيعة لا تعرف الثبات والتغيير هو سنة الحياة .." فأنت لا تنزل النهر مرتين ..!!" إنها نتاج العديد من تراكم الرؤي والأفكار التي تتفاعل وتتصادم وتتلاقح مع بعضها وتعيد تشكيل نفسها للتوافق مع روح العصر واللحظة الراهنة .." إنه التراكم الكمي .. الذي يؤدي بالضرورة الي تغير كيفي .." أما في العالم العربي فالوضع أشبه بمن يحاول بناء عمارة سكنية ابتداء بالدور الأخير ..!! حيث أصبح هناك نوع شديد من ( حرق المراحل ) فهناك بعض المحترفات العربية لم تمر أساسا بمرحلة الكلاسيكية الفنية أو مرحلة الحداثة .. ونفاجأ بها تدخل مباشرة في مرحلة ما بعد الحداثة ..!!؟؟ وقد يكون هناك قول آخر يؤكد أن الإنسان ابن عصره ويجب أن يتعامل معه بشكل حي ومباشر ولا داعي لفقدان كثير من الوقت في مراحل فنية أو فكرية قد تجاوزها قطار الزمن ..!! وهو رأي قد يكون له منطقه لكنه مغامرة خطرة، إنه أشبه بالقفز في الفراغ المجهول الذي قد تصل بعده إلي شيء .. أو قد لا تصل أبدا ..!!؟ لذا قد تكون الدعوة الي فكرة ( هضم المراحل ) وليس حرقها هي الأنسب للبيئة العربية الثقافية والاجتماعية والجغرافية أيضا، فلا داعي لإضاعة الكثير من الوقت في مناقشة أفكار قد تكون أصبحت غير متوافقة مع روح العصر .. لكن في المقابل أيضا لا يمكن إلغاء أو محو كل هذه الرؤي والأفكار والقفز فوقها، وبالتالي علينا أن نتعامل معها بشكل صحيح وصحي دون أن نستغرق في تفاصيلها وسراديبها الضيقة، لأنها تعد الأساس الصحيح الذي يجب البناء عليه ..!!