في هذا العمل يخترق المؤلف الواعد عبدالرحيم كمال عالم «ما بين الواقع والخيال» ويدلف إلي ساحة التقاء وتحابب الأرواح وعالمها الغامض محاولا سبر أغوارها.. والإجابة عن سؤال: لماذا قيل إنها جنود مجندة؟! هو يمزج بين الماضي والحاضر ويزاوج بين المادة وما وراءها ويقابل الشرق بالغرب ويلاقي الإلحاد بنور الصوفية.. سعيا وراء الإجابة. هربرت السكير موظف إنجليزي يعيش بلندن أجواء الحرب العالمية الثانية يتوسل إلي غارات الألمان أن تصطاد روحه فهو قد فقد رغبته في الحياة بعدما لقي شقيقه وزوج شقيقته «الحبيب إلي قلبه» حتفهما في الحرب ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر بعيره حينما اكتشف خيانة زوجته له. بينما يبحث عن الموت توهب له حياة جديدة حقيقية حين يفرض عليه عمله السفر إلي السودان، حيث يتعرف علي الإسلام من خلال فضل الله العامل البسيط الذي يجذبه إلي عالم الصوفية، يشهر إسلامه ويفارق زجاجة الخمر ويقبل علي «العرق ديب»! كما يودع الحياة العبثية ويتخذ الحب هدفا ومعني لحياته.. يصدق في حبه للخالق ولمخلوقاته حتي تظهر له «كرامات» تمس البشر والحجر. لم نعلم شيئا عن «هربرت» صبيا أو شابا لكن ما علمناه عنه كهلا برر عبر منطق مادي سديد سعيه إلي مغادرة الحياة، بل ومحاولته الانتحار، لكن منطقا خاصا ميتافيزيقيا بدأ يحكم تطور الرواية منذ حلم هربرت بالشيخ السوداني عبدالقادر ورآه في منامه قبل رؤيته في الواقع. وتجري المزاوجة بين المنطقين خلال رحلة هربرت بالسودان صعيد مصر لينجح النص في الامتحان الدرامي العسير، كيف يتحول سكير ملحد إنجليزي إلي أحد أولياء الله الصالحين عبر تصاعد درامي محكم، قد تتساءل لماذا هربرت بالذات يتحول إلي ذاك الولي وهناك الآلاف من الصادقين في عشقهم للذات الإلهية ولكل خلقها يحق لك أن تتساءل عن هذا وعن أحداث تعلق زينب بهربرت مثلا وإنقاذ الأخير لحياة زايد دون أن يدري، لكن من حق الكاتب أن يري منطقه الخاص مبررا لها وهو قد أعلن في بدايات الرواية أنه سينطلق بنا من العالم الأرضي إلي عالم الروح إلي ما وراء المادة، حيث لا تستطيع أن تفرض منطق المادة علي الأشياء أو الأحداث. الشخصيات من لحم ودم وروح زايد الذي عاش حياته غارقا في الملذات يندم ويبكي بحرقة بعدما طلب من صابر الأعمي أن ينتقم له من أخيه، يتذكر ابني شقيقه ويذرف الدمع ثم يبكي فرحا حين يعلم أن هربرت حال دون اعتداء الأعمي علي الشقيق «شهاوية» تتنقل بين أحضان الرجال لكن قلبها يعشق زايد وحده، يوسف يعرف الحقد والكراهية منذ نشأته في بيت عبدالظاهر. يكبر كارهًا لكمال ولحبيبه عبدالقادر «هربرت» ويتمني هدم مقامه، سلطنة زوجة عبدالظاهر تغار من زينب شقيقته بسبب اهتمام عبدالظاهر الشديد بها وتدليله لها وبسبب ما نال ابنها يوسف- من أذي بفعل تصرفات زينب، مدرس اللغة العربية الحساس الراقي الذي يحبه الأولاد هو الذي يقودهم في مظاهرات القرية ضد الإنجليز ويبدو في مقدمة الصف الوطني..، فضل الله المتدين الذي يعي روح الإسلام ويتمسك بتعاليمه كما يتمسك بكرامته الإنسانية وهو الذي يأخذ بين «هربرت» إلي الإسلام. الحوار في جزء العمل الأول - الذي دار بلندن- كان بليغا ساعدته «الفصحي» (التي تحاور بها هربرت مع زوجته مرجريت في أغلب الأحيان) علي أن يقترب من لغة المسرح الفخمة مع توافر الصدق الشديد الذي لازم صنعة تحمل موهبة، أما حوارات البطل في السودان مع الشيخ فغلبت عليها المسحة الصوفية والعمق الفسلفي «الديني» - «السبحة ياعبدالقادر هي قلب العبد» واليد التي تحملها ترمز لله سبحانه»، «الحب ليس له سبب.. هو في ذاته سبب.. هو السبب وهو السر»..، وفي المنطقة الثالثة من العمل «صعيد مصر» تصطبغ حوارات هربرت «عبدالقادر» وزينب بصبغة روحية رومانسية، حوارات عبدالظاهر ويوسف وأحمد شقيقه صعيدية بسيطة.. حوارات الأحبة من «الصعايدة» تلقائية تصل إلي القلب «شهاوية لزايد: تعرف إيه اللي خللاني أحبك.. ضحكتك الرايقة اللي ماباشوفهاش من حد»!». هضم المخرج الشاب الموهوب شادي الفخراني النص المشحون بالخيال وبالمشاعر.. صنع كادرات معبرة «عن الفزع وانتظار الموت في مرحلة لندن، وعن السكينة والوداعة في أرض السودان».. تعامل دون تزيد مع مشاهد اللقاءات الروحية بين «هربرت» والشيخ.. استغل الطبيعة جيدا سواء في لندن أو الخرطوم، فقط.. بدا الإيقاع بطيئاً نسبياً في الحلقات التي سبقت رحيله إلي مصر، تسارع بعدها ودبت الحركة في المشاهد بقوة مع تسارع الأحداث ذاتها الناعسة الهادئة والمقبضة أحيانًا أعجبت شادي «أضواء المشاعل وأضواء مصابيح الجاز» وأحسن استغلالها سواء للتواكب مع أحزان وكآبة هربرت «في بداية تواجده بالسودان» أو للتعبير عن شعاع النور الذي تبدي لهربرت وسط ظلام حياته فيما بعد «مرحلة إسلامه»..، أما الموسيقي المصاحبة فأتصور أن صاحبها أهدر فرصة رائعة لخلق جمل ذات روح سماوية معبرة عن «مورال» النص فقد جاءت الموسيقي مفتقرة إلي الأصالة عادية معادة «شديدة الشبه بموسيقي مسلسل مسألة مبدأ». أداء يحيي الفخراني يستحق أن يتم تدريسه في معاهد التمثيل بالعالم، بالتجاوز عن تزيده أحيانا في الابتسام - والذي يمكن تبريره بميل أصحاب الهوي الصوفي إلي إبداء الشاشة- نري أن الفخراني قد بلغ قمة النضج في أدائه لشخصية هربرت.. بتعبيراته التلقائية في حزنه علي موت معلمه السوداني وببراءة عينيه وهو يكشف عن حبه لزينب دون كلام، وبعبثيته المجنونة وهو يسعي إلي الموت والصادق وهو يحاول هداية «صابر الأعمي»..، «سلافة معمار» قدمت أداء متوازنا واعيا، أحمد فؤاد سليم قدم واحداً من أقوي أدواره وتألقت سوسن بدر - كالعادة- عاش محمود الجندي قمة الإحساس في دور كمال شيخا ولا يمكن أن ننسي مشهده وهو يحمل نعش أمه ويتوقف أمام مقام عبدالقادر ويناجيها.. «خلاص سلمتي ع الحبيب ياامه؟» وعيناه تترقرقان بالدمع الصادق، الممثل الصاعد الذي أدي دور «زايد» يستحق التقدير علي وعيه وإحساسه بتقلبات الشخصية والمواقف المختلفة التي مرت بها علي المستوي النفسي، الطفل أحمد خالد الذي أدي دور «كمال» موهبة رائعة لها مستقبل ويستحق الفخراني الأب.. أو الفخراني الابن التحية علي اختيار هذا النابه الصغير!