بالتأكيد تعد سيرة الفنانة الراحلة تحية كاريوكا من أهم السير في تاريخنا الفني. وقدر للمشاهدين أن يتابعوا جوانب منها عبر مسلسل نشاهده في هذا الشهر الكريم عن الراحلة القديرة من تأليف عمر الشيخ وإخراج فتحي الجندي. وكان قد ثار جدل كبير مؤخرا حول احتمال عرضه من عدمه إلي أن حسمت خريطة رمضان القضية لصالحه. وها هي الفنانة وفاء عامر تطل علينا بكل جسارة متقمصة شخصية النجمة الراحلة الشهيرة بعد أن نجحت في اقتناصها. وبعد سنوات من الخلاف والتنافس بين زميلات لها عديدات للقيام بهذا الدور بكل ما يشتمل عليه من مواقف غنية وتقلبات حياتية ومراحل فنية وإنسانية. وصف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد تحية كاريوكا بأنها " لم تكن راقصة جميلة فحسب، وإنّما كانت فنانة لعبت دوراً مهيمناً في تشكيل الثقافة المصرية"..كما أنه اعتبرها أروع راقصة شرقية علي الإطلاق ورأي أن أداءها التمثيلي والراقص هو "تجسيد لنوع من الإثارة بالغ الخصوصية" ..فهي بالنسبة له أنعم الراقصات وأبعدهن عن التصريح. وهو يراها نموذجا واضحا أشد الوضوح للمرأة الفاتنة المغوية التي يفتك سحرها بالناس". وعلي الرغم من أننا نتعامل مع فن الرقص باعتباره «هز» للبطن والأرداف وإثارة للغرائز وشيء أقرب لعروض الاستربتيز علي الطريقة الشرقية.. إلا أن الفنانة تحية كاريوكا هي أحد الاستثناءات القليلة في هذا المجال والتي استطاعت أن تضفي عليه قدرا من الاحترام لفترة من الزمن وأن تجعلنا نتعامل معه باعتباره فنا تعبيريا جميلا يعود تاريخه لعمر الإنسان علي الأرض. تأمل تحية يمكنك أن تتأمل رقصة تحية كاريوكا دون أن تشعر أنك تقترف إثما أو أن تشعر ولو للحظة بأنك أمام فعل فاضح، إن حركاتها الرقيقة المنسجمة المتصاعده تجعلك تتابع هذا التصميم الجمالي وهذه التكوينات البديعه.. وينبهنا الكاتب العربي الكبير إدوارد سعيد إلي أن تأمل ملامح وجه تحيه كاريوكا وهي تؤدي رقصتها يوضح لك مدي استغراقها الكامل واندماجها الشديد. وربما لهذا كان انتقالها من الرقص إلي التمثيل حتميا وسلسا وناجحا. وهي أيضا وعلي جانب آخر علي حد وصفه تنتمي "إلي عالم النساء التقدميات اللواتي يتفادين الحواجز الاجتماعية أو يزلنها". يري البعض أن قيمة تحية كشخصية عامة تكمن أكثر في تاريخها الوطني والنضالي والسياسي سواء قبل ثورة يوليه كمؤيدة وداعمة لها أو بعد قيامها معارضة لرموزها ولحكام وسياسات عهدها، بمواقفها وفنها أو في نضالها النقابي الكبير ووقوفها في مواجهة قانون جائر رغم مرضها وشيخوختها لتشكل نموذجا رائعا في المقاومة والتمسك بالحقوق. ولكن الحقيقة أن إنطلاقة كاريوكا الأساسية كانت من خلال فنها الراقص وما حققته من مجد وتميز في أدائه في مرحلة عمرية مبكرة، مما مكنها لتصبح من مشاهير المجتمع وأحد أهم الشخصيات العامة والمؤثرة والفاعلة. فمشروع تحية كاريوكا كراقصة كان الأكثر ارتباطا بتراث شعبها، فالفتاة اليافعة طورت أسلوبها الحركي اعتمادا علي إعادة إنتاج الهرمونية الشرقية القديمة في الرقص. لتصبح رائدة لهذا الأسلوب وتلك المدرسة في مواجهة مدرسة أخري كانت أقرب لتقليد الغرب وتلمس نماذجه وأساليبه وإيقاعه وحركاته. فهل يمكن أن يأتي عمل درامي يعبر عنها ويهمش هذا الجانب ويكتفي في الغالب بذكره علي سبيل التسجيل. توقعات واحباطات ليس من المفترض أن يتوقع المشاهد أو الناقد صورة للعمل الفني قبل أن يراه ثم يعود ليقيمه علي أساسها عند عرضه. ولكن بالتأكيد هناك بعض الأعمال التي تفرض عليك توقعات محددة يصعب أن تتقبل العمل بدونها. يتحقق هذا غالبا مع الأعمال التي تعتمد علي شخصيات حقيقية لها سيرتها وتاريخها ومواقفها المعروفة. ولكن يظل السؤال هل تتوقف حدود وإمكانيات وأهداف الدراما عند تقديم الصور والمواقف المعروفة عن الشخصية. وهل ينحصر دور العمل الفني في هذه الحالة عند عرض كل ما تشتهيه نفسك حول العمل أم أن العملية الإبداعية تتجاوز هذه الحدود الملزمة الصارمة وتنطلق إلي آفاق أبعد. علي جانب آخر أكدت وفاء عامر في أكثر من حوار لها أنها لم تتردد لحظة واحدة في قبول تجسيد شخصية الفنانة الراحلة تحية كاريوكا، لما لها من ثقل فني يعرفه الجميع، وبُعد إنساني وسياسي أكثر ثقلاً يجهله الجيل الحالي من الشباب. كما نفت في حوار خاص لموقع CNN بالعربية، "أن يكون قد تم حذف بعض مشاهد الرقص في العمل، بسبب الخوف من التيارات الإسلامية التي تتصدر المشهد السياسي المصري، وإنما مراعاة لعرض المسلسل في شهر رمضان." ومن هنا يبرز السؤال المنطقي جدا : لماذا الحرص علي عرض مسلسل في رمضان عن حياة راقصة للدرجة التي تضطر صناعه لتجنب ظهورها وهي تمارس عملها الأصلي الذي برزت من خلاله موهبتها وإنطلقت شهرتها. مادام صناع العمل ذاته يرون أن هذا لا يناسب العرض في الشهر الكريم. بعيدا عن الإغراء وعلاوة علي هذا فإن وفاء عامر أشارت إلي أنها ابتعدت عن أدوار الإغراء، لأنها تغير جلدها الفني في هذه المرحلة، واعتبرت ذلك حقاً مشروعاً لأي فنان. وقمة التناقض أن فنانه تمر بهذه المرحلة من التشدد بعد مراحل من التعري المسف تقرر القيام بأداء شخصية لاشك أنها كانت أحد رموز الإغراء في الفن المصري. في إجابتها عن سؤال حول استعدادها للشخصية . تؤكد وفاء علي الأولوية القصوي التي تمنحها للاهتمام الشكلي حين تقول : "الاستعداد للشخصية أخذ مجهوداً كبيراً، قضينا ساعات من العمل مع الماكيير، ومخرج المسلسل عمر الشيخ قبل أن ينجح في تقريب الشكل الخارجي بيني وبين كاريوكا. كذلك مصمم الأزياء الذي عكف علي تصميم كل الأزياء التي تتوافق ومختلف المراحل السنية التي تمر بها الشخصية، حيث تبدأ الأحداث وهي في عمر السادسة عشرة، وتنتهي برحيلها، حيث كانت تعاني زيادة ملحوظة في الوزن، والذي استطعنا إظهاره بطريقة حرفية في العمل. الجدعنة والشكلنة وعن تأدية وفاء عامر للدور قال المخرج: وفاء هي الأقرب حتي في الواقع لتجسيد الدور لكونها تحمل صفاتها من الجدعنة والطيبة، كما أنها ظلت تعمل علي الدور لمدة عامين وبالتالي أراها تألقت في تأدية الدور. وهكذا تأتي الشكلانية لدي الممثل واختلاط مفاهيم الصفات الحقيقية للممثل بإمكانياته في الأداء لتكشف عن أسلوب في التعامل ليس له علاقة بالفن أو بالفهم الصحيح للعملية الإبداعية. وفي الحقيقة أن رصدي لهذه التصريحات والآراء حول المسلسل يأتي بعد مشاهدتي لمعظم حلقاته . وبحثي بجدية عن كيف يختار الفنان الفشل علي الرغم من أنه أمام فرصة عمل متحققة لديه كل عوامل النجاح. فالسيناريو تعامل مع حياة تحية علي أنه مادة يلزم استغلالها كلها. مع أن التركيز علي قيمة الشخصية وجوهرها يستلزم تكثيفا أكثر لبعض المناطق والمواقف من حياتها. ولأن في حياة كل البشر أمور مشتركة من أفراح وأحزان وهزائم وانتصارات. ولكن تبقي السيرة القادرة علي رسم الشخصية بإبداع هي تلك التي تتلمس روحها وتبحث عن كل ما يبرزها ويلقي الضوء علي جوانبها المعبرة وصراعاتها الأهم ولمحاتها الأكثر تعبيرا. زحام التفاصيل ولكن مسلسل تحية تاه في زحام التفاصيل. ولم تجد الممثلة أمامها مواقف ترسم شخصية من دم ولحم فراحت تبالغ في أدائها وراحت تعتمد أساليب وأكليشسيهات في التمثيل عفا عليها الزمن. وتعامل المخرج مع النص باعتباره عملا مثل أي عمل وسيرة مثل أي سيرة فجاءت كادراته وزواياه تقليديه وجاءت صورته مسطحة تخلو من أي أعماق أو أبعاد رغم جهود مدير التصوير في توزيع الإضاءة إلا أنها لم تنر لنا أي جوانب حقيقة من الشخصية ولم تكشف عن جمالها وقوتها وضعفها بقدر ما سجلت صورا بطريقة العرض التوثيقي الريبورتاجي تارة أو الميلودرامي الفاجع أخري، دون أن تنفذ بحق لدراما الشخصية فتضفي عليها مصداقية فنية نابعة من تكامل التفاصيل وليس من كونها عن شخصية حقيقة بالفعل. ريش نعام في زحام الأحداث لم يعبر العمل بالقدر الكاف والواجب عن تحية النجمة المتألقة صاحبة المال والسلطة والنفوذ التي كان بإمكانها أن تغترف الكثير وأن تتحول إلي محظية أو حتي زوجة لهذا أو ذاك ، ولكن الفتاة فقيرة الأصل التي جاءت إلي القاهرة هاربة من الإسماعيلية لتعمل ضمن مجاميع الراقصات في فرقة بديعة مصابني كانت تمتلك طموحا كبيرا كما كانت تمتلك أيضا كبرياءا هائلا واعتزازا بذاتها يمكنك أن تلمحه من خطواتها الواثقة ونظرة عينيها المستقرة وهامتها المرفوعة دائما دون أن تشعر بالتعالي أو الغرور. في عز مجدها فضلت تحية أن تدافع عن وطنها وأن تقف في صفوف الثوار بدلا من أن ترقد علي ريش النعام وعندما تولي رجال الثورة الحكم لم تحجز تحية مكانها في طابور المنافقين والمهللين ولم تتأجر بدورها في معاونة التنظيم ولكنها عادت إلي صفوف المعارضين تدافع بقوة عن حريتها وحرية شعبها وتدعو إلي عودة الديموقراطية التي كبلها الحكم .. تواجه الحبس والاعتقال لكنها لا تتراجع ولا تهادن. راحت تكرس فنها في خدمة قضيتها وتنفق من مالها علي فرقتها المسرحية لتقول من خلالها كلمتها الجريئة في زمن فضل فيه الكثيرون الصمت خوفا من بطش السلطة .. تتعرض لأزمات مالية طاحنة نتيجة لإغلاق مسرحها بعد كل ما أنفقته .. يتقدم العمر بتحية كاريوكا وتتصور انها أدت الرسالة وعليها ان تستريح وتهدأ في الجزء الباقي من حياتها ولكنها تعود لتضرب مثلا هائلا لجموع الفنانين حين تضرب عن الطعام احتجاجا علي القوانين الجائرة مطالبة بإنصاف الفنان ورد حقوقه له. وتعد تحية كاريوكا واحدة من الفنانين القلائل علي مستوي العالم التي أدت علي شاشة السينما شخصيتها الحقيقية في الواقع وذلك من خلال فيلم "إسكندرية كمان وكمان" حيث قدم المبدع الكبير يوسف شاهين تحية حارة كبيرة مستحقة لهذه الفنانة العظيمة حين ضمن موقف إضرابها عن الطعام أحداث فيلمه. كما قدم حوارا رائعا معها عرض من خلاله تفاصيل ذكرياتها. وعرفنا علي بعض الجوانب الهامة والجميلة في شخصيتها. ولكن حياة تحية ومذكراتها تستحق بالفعل عملا بمستوي هذه الفنانة الكبيرة ليس فقط لفنها الرائع ولا لمواقفها العظيمة ولكن لأن في تاريخ تحية جزءا من تاريخ مصر المضيء لفترات طوية من القرن الماضي.