اللوحة الوحيدة التي لم يضع عليها فاروق حسني تاريخًا، هي التي توجز حلم الطفولة القديم، بأن تمتد اليد لتصطاد الشمس ثم تغسلها بماء البحر أمام قلعة قايتباي المطلة علي الميناء الشرقي، ثم اللعب بها ومعها لعبة تجديد الحياة بالشكل الذي تحبه. وإذا كان أقرب أساتذته إلي قلبه هو المصور العبقري حامد عويس، فهذا الأستاذ هو من قال: «تفوق فاروق حسني في التشخيص إلي الدرجة التي كانت خطوطه بالقلم الرصاص ذات شفافية هائلة، وحين رسم بالألوان المائية، كانت لوحاته ذات نقاء مصقول وتلقائي، وحين رسم بألوان الزيت، استطاع أن يروضها لتنطق بموسيقي ذات تأثير كبير، ثم جاءت مرحلة الدخول من بوابة التجريد إلي التعبير». وهنا يترك حامد عويس الكلمة ليواصلها صديقنا الراحل الكريم المعماري جمال بكري «إذا كان التجريد هو الاختزال، فقد اختزل فاروق حسني التجريد نفسه، واقتحم به بوابات التعبير الفسيحة». وفي كلمات فاروق حسني عن طفولته ما يحكيه حين كان يخرج من مدرسة إبراهيم الابتدائية، ليلعب بالأصداف والصخور علي هضبة قلعة قايتباي، ثم يرسم خيالاته علي الرمال ببعض من الأحجار. وتظل الرسوم مخزونة في الخيال البعيد. وما إن يركب البحر ليسافر إلي أوروبا مرة للاستكشاف، وثانية للعمل حتي يجد نفسه وجهًا لوجه أمام رسوم طفولته، وهي تنفجر كأنها الموسيقي الملونة علي اللون الأبيض لقماش اللوحة. وإذا كانت بداية علاقته بالألوان كانت مصاحبة لعلاقته بالمؤلف الموسيقي الحالم تشايكوفسكي، الذي انبعثت موسيقاه من غرفة شقيقه المجاورة لغرفته في منزل الأسرة، فقد كان لابد من أن يأتي بيتهوفن «الأصم في الواقع»، وهو الثري بما يملكه من نوافذ روحية سمع فيها ما كتبه لنا من سيمفونيات، ولعل بيتهوفن قد تحدد في حياة فاروق حسني بمرحلة التصوير الزيتي الذي أبدعه، وبقيت رباعيات هذا المؤلف الموسيقي العبقري كحركة الريشة التي رسم بها هذا الفنان العديد من الاسكتشات بشفافية عالية. ولم تكن الدراسة في كلية الفنون بعيدة عن المعمار الموسيقي الذي انفتح أمام أحاسيس فاروق حسني، فالسفر إلي الأقصر بالنسبة إلي دارسي الفن، هو لقاء تصنعه الشمس مع الحجر، وكيف أضاء «رع» وجه الكون بتشكيلات هائلة يمكن للعين أن ترتوي منها وهي تري معبد الدير البحري أو أعمدة الكرنك. فالضوء السابح في ماء النيل ذات الخصب القادم من لون البن، يمكن أن يحول في لحظة إلي لون رمادي يقترب من جديد من اللون الخالد، هذا الأسود المسيطر علي الكون، في أثناء غياب الشمس، لكنه يتفتت تحت أشعتها كل فجر لينبثق أزرق سماوي، وكأن السماء تقترض من البحر بعضًا من لون اتساعه، لتظللنا بأمواج من نتف سحاب أبيض. ويطل الأصفر مع البني من معابد القدماء علي عيون الفنانين، منهم من يتشرب به، فيصل إلي أصفر يخصه وحده، وعلي سبيل المثال، ومازالت عيوني تذكر لونًا أصفر في لوحة الفارس الذي رسمها سيف وانلي بعد عودته عام 1958، من الأقصر، قال لي عنه سيف وانلي «الأصفر في رسوم الفراعنة له جمال مأخوذ من الشمس»، ولعل الأصفر بما يحمله من وضوح يفصح لنا في معرض فاروق حسني لعام 2010، أنه عاش مع وضوح فكرة يحتاجها العالم، وهي التصالح، فوضوح احتياجات الكون لأسلوب حياة مختلف غير قائم علي التربص والضغينة، يحتاج إلي نضج روحي لا يمكن أن يصل إليه إلا من آمن بحقيقة الاختلاف. ويمكن لنا أن نرقب أي معبد تلتقي فيه أمنيات الإنسان مع ما يطلبه من السماء سنجد اللون الأصفر في جدران الفراعنة ومعابد البوذيين وكنائس المسيحيين ومساجد المسلمين، فإذا وجدنا الأصفر قد أطل في لوحات فاروق حسني في هذا المعرض، فهذا نابع- في رأيي- من شديد إخلاصه لفكرة التصالح التي عاش معها طوال عام 2009، وحين حاول أهل الضغينة والترصد اغتيالها، عادت إلي لوحاته لتعبر عن نفسها، وفي خلفيتها بعض من إشراقات موسيقي فاجنر، ومن يسمع موسيقي فاجنر بعشق كما يسمعها فاروق حسني سيجد التراتيل الروحية وهي تسيطر علي تلك الموسيقي، ففاجنر أول الأمر وآخره عند مستمع متواضع مثلي، هو باحث عن صلة الروح بالجسد، وصلة الأجساد بالكون، دائمًا ما أجد في موسيقاه دراما البحث الصوفي عن النقاء. وها هي اللوحات تحفل أيضًا باللون الأسود، وكثيرًا ما عقدت مقارنة بين اللون الأسود عند كمال خليفة هذا المصور النحات البارز الذي لم تلق لوحاته أو تماثيله عناية كافية من المهتمين بالفنون الجميلة، وهو من كنت أظن أنه وحده الذي اخترع لونًا أسود يضم حكاية الكون كله، إلا أن من يري اللون الأسود الذي تقدمه لوحات فاروق حسني سيجد منافسًا خطيرًا للأسود الذي قدمه كمال خليفة في مجموعة لوحاته العديدة، وستجد العين فروقًا جوهرية بين الأسود الذي قدمه كمال خليفة، والأسود الذي يقدمه فاروق حسني. وها هو فاروق حسني يشرح ذلك في حواره مع الكاتبة زينب عبدالرزاق بجريدة الأهرام «أنا لا أري اللون الأسود لونًا واحدًا، لكنه مجموعة من الألوان، مجموعة من المشاعر التي تخرج في لحظة واحدة، وهو لون احتفالي، فالمساحة هي التي تحدد اللون والأسود هو الذي يعطي سمات اللوحة، وهو لون له حضور، لون التحديد، وهو الظل. والظل معناه الوجود، فما دام هناك وجود فمن الحتمي أن يكون لهذا الوجود ظل». وأقرر أنا- كاتب هذه السطور- أني أكتب كلماتي تلك، وأمامي لوحتان لكمال خليفة عن زهرتين تنبعان من عشرات «اللون الأسود» في كل من اللوحتين، واعترف أني أصاحبهما منذ قرابة الخمسة وأربعين عامًا، وأي لوحة منهما تقوم بتنقية أعماقي، بأكثر مما يتصور أي أحد. والأسود في لوحات فاروق حسني يخصه وحده، تمامًا كما يخص الأسود عند كمال خليفة فرشاته وحدها. الأصفر والأزرق والأسود والطوبي، كلها ألوان تعزف نفسها في معرض هذا الفنان بتلقائية شديدة الإحكام، علي الرغم من أن حدود كل لون تنبع من موسيقي اللوحة نفسها، وحين يقول فاروق حسني «المشاعر هي التي تختار ألوانها»، فهو يعبر بدقة عن مجمل لوحاته في هذا المعرض. وتبقي اللوحة التي تصور قرص شمس مبتسم ضاحك، وهي اللوحة التي لا تاريخ لها، كأنه حين نسي كتابة تاريخها لم يرد أن يخبرنا أنها موجودة معه منذ أن كان طفلاً يلعب برمال الشاطئ وصخوره عند قلعة قايتباي، ثم طلبت اللوحة لنفسها ميلادًا حقيقيًا بيننا بعد أن صحبته في رحلة العمر، فانبثقت لتنسيه أن يضع لها تاريخًا، لأنها موجودة معه من قديم الزمن. يمكنني أن أقول إن موسيقي الألوان عند هذا الفنان تجعل لكل لوحة إيقاعاتها الخاصة بها. منير عامر عن مجلس فنون مصرية/يناير 2010