تعرض العقل العربي لعمليات تزييف وتدليس كثيرة ومتعددة علي مر تاريخه الطويل والعريض، وكان للاستبداد السياسي دور كبير في نسج وصنع وتمرير تلك العمليات، كما كان للاستبداد الديني أثره أيضا في احتضان كثير من تلك العمليات ليحتفظ بمكتسباته ومصالحه المرتبطة دائما بشيوع وانتشار الجهل وبقاء الأمر الواقع .... لكن أخطر تلك العمليات علي الإطلاق هي تلك التي تمت - ولا تزال تتم حتي يومنا هذا - بتحالف الاستبدادين السياسي والديني معاً لتحقيق مصالحهما المشتركة، تلك المصالح التي يلعب الفكر فيها الدور الأكبر لتكريس اتجاهات بعينها دون غيرها حتي لتصير من فرط تكرارها والدعوة لها حقائق مسلمة وثوابت لا يرقي إليها الشك. رغم أنها وهم وأباطيل وزيف وخرافة ...! وكثيرة هي تلك الكتابات التي أخذت علي عاتقها مهمة البحث والدرس والتقصي لنقد أسس وأصول ونظريات عمليات التدليس هذه لتكشف فسادها وتبين عوارها وهي كتابات تتناول الفكر السياسي والفكر الديني معاً، وإذا كان تناول السياسة وفكرها أمراً يمكن تفهمه واستيعابه عند الخاصة والعامة علي حد سواء، فإن تعبير " الفكر الديني " يبدو ملتبسا عند الكثيرين الذين ينتفضون ذعرا ورعبا عند سماعهم تعبير نقد " الفكر الديني " ظنا منهم أنه نقد الدين ذاته رغم أن الفرق بينهما جد كبير، ورغم ما بذله واحد من أصحاب تلك الكتابات من جهد ليثبت أن " الدين " شيء مقدس وضروري للحياة والمجتمع ، وأن " الفكر الديني " شيء آخر تماما لأنه يعني تلك الاجتهادات البشرية التي صاحبت محاولات فهم النص الديني إلا أن جهده ومحاولاته هذه ذهبت أدراج الرياح أمام صراخ العامة وهتاف الغوغاء الذين راحوا يطالبون بدمه وتكفيره والتفريق بينه وبين زوجته - وأعني به بالطبع الدكتور نصر حامد أبو زيد - الذي أكد من خلال أطروحاته المتعددة أن النصوص الدينية مقدسة ولا يمكن المساس بها ولها سلطتها الخاصة، أما النصوص البشرية وهي اجتهادات الفقهاء والعلماء فليست كذلك لأنها قابلة للأخذ والرد والمراجعة وهي ما أطلق ونطلق عليها " الفكر الديني " .... ولم يكن الدكتور نصر حامد أبو زيد وحده بالقطع مَن تصدي لنقد وكشف عمليات التزييف والتدليس التي تمت ولا تزال تتم في تاريخ الفكر والعقل العربي فقد سبقه الكثيرون ولحق به الكثيرون أيضا وجاء بعده من جاء ومنهم محمد أركون ومحمد الجابري والمستشار سعيد العشماوي وخليل عبد الكريم وزكريا أوزون وسيد القمني - بالدكتوراة أو بغير الدكتوراه - وآخرون يضيق بهم الحصر ...... لكن أخطر وأهم تلك الكتابات تلك التي ظهرت كمشروع معرفي وفلسفي وكنظرية دينية وفكرية وسياسية واجتماعية وثقافية متكاملة الجوانب تلك التي ظهرت أوائل التسعينات علي يد الدكتور /محمد شحرور، ورغم مرور كل هذه السنوات علي أطروحات الرجل إلا أن أحدا حتي الآن لم يلتفت إليها بما يليق بها من التفات وهي واحدة من مثالب العقل العربي نفسه الذي ركن إلي الراحة والدعة والهدوء منذ قرون بعيدة ..! إصدارات وقد أصدر الدكتور شحرور ستة كتب بالعربية: الأول الكتاب والقرآن، والثاني الدولة والمجتمع، والثالث الإسلام والإيمان، والرابع نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي، والخامس تجفيف منابع الإرهاب، والسادس القصص القرآني وكلها صادرة عن دار الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق ما عدا الأخير فقد صدر عن دار الساقي. وأطروحات الدكتور محمد شحرور ليست مقالات ولا بحوثا ولا محاولات كمحاولات مجايليه لنقد الفكر العربي السياسي أو الديني، لكنها أخطر من ذلك حيث تقدم كما ذكرنا مشروعا معرفيا متكاملا للإسلام وللإيمان وللعلم والمعرفة والإنسان معتمدا في مشروعه ومنطلقا من عدة أسس ومسلمات أولية لا نظن أحدا يختلف عليها من الباحثين السابق ذكرهم ولا حتي يمكن أن يختلف عليها أي تيار أسلامي متشدد أو معتدل أو متطرف ، ومن تلك الأسس : 1- القرآن الكريم كلام الله الصالح لكل زمان ومكان والذي لا يأتيه الباطل أبدا. 2- المعجزة الحقيقية للقرآن ليست فقط في نظرية النظْم أو في اللغة البليغة أو اختلاف أساليب البديع والبيان لكنها أيضا في ثبات النص وحركة المحتوي الأمر الذي يجعله قادرا علي فرض مصداقيته علي كل أجناس العالم من عرب وعجم. 3- اجتهادات السلف ليست نصوصا قرآنية منزلة لكنها محاولات مخلصة منهم لفهم النص جاءت متفقة مع نظامهم المعرفي وأفقهم الثقافي ضاربا المثل التالي ليؤكد نظريته فيقول : " ...وهذا ينطبق علي من نظر الي الكون بعينه المجردة فرآه مكونا من أربعة عناصر هي الماء والتراب والهواء والنار، ثم علي من نظر اليه بالمجاهر المكبرة ومخابر التحليل فتجاوز ما رآه الأول، وتوصل إلي أن الكون مؤلف من عناصر أولية من الهيدروجين إلي الأورانيوم، لقد استعمل كلا الرجلين المنطق فيما توصلا إليه لكنهما بالمحصلة توصلا إلي نتيجتين مختلفتين، لأن المستوي المعرفي عند الأول أضيق وأخفض منه عند الثاني ولا يضير أحدهما أن نجده يشترك في العديد من جوانب الاستنتاج مع الآخر لأن المعرفة الإنسانية تحمل صفة التطور والتراكم. " ص 55 ( نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي). أما المنهج الذي اتبعه الدكتور محمد شحرور في محاولته لفهم التنزيل الحكيم فانطلق أولا من إنكاره الترادف في اللغة العربية منتميا في ذلك لمدرسة أبي علي الفارسي مؤكدا أن الألفاظ خدم للمعاني وأن اللغة حاملة للفكر وتتطور معه، كما أعلن أن التنزيل خال من الحشو واللغو والزيادة، فما اعتبره النحاة زائدا في النحو ليس زائدا في الدلالة وبالتالي لا يمكن حذف كلمة واحدة من القرآن بالاضافة إلي أنه يحوي المصداقية أي أنه صادق متطابق مع الواقع ومع القوانين الطبيعية والفطرة الإنسانية، وأنه خال من العبث ومن الأخبار غير المهمة والمعروفة عند الناس " فالناس لا تحتاج إلي وحي لتعرف مثلا أن الجرة تنكسر اذا وقعت من ارتفاع عال، ولا تحتاج إلي وحي لتعرف أن الفيل ذنبه قصير وخرطومه طويل لكننا إذا قرأنا قوله تعالي ( ... فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) البقرة 196، وسلَّمنا بما ورد في التفاسير بشأنها رأينا أن الله يعلم الناس العد 3+7=10 وهذا خبر يعرفه كل الناس عالمهم وجاهلهم ولا يحتاجون إلي وحي لمعرفته وهذا غير معقول في ضوء خلو التنزيل من العبث، فإذا حذفنا كلمة " كاملة " من النص لم يتأثر المعني الذي ذهب إليه المفسرون وهو أن الله يعلم الناس الجمع والحساب. وهذا أيضا غير معقول في ضوء خلو التنزيل من الحشوية .....تفسير الآية هو التفسير الذي ينتبه إلي وجود أكثر من نظام للعد عند الناس فهناك النظام العشري والنظام السباعي والنظام الاثني عشري والنظام الست عشري فالعشرة في النظام الاثني عشري مثلا ناقصة نعبر عنها بالشكل التالي 12/10 أما العشرة في النظام العشري فهي عشرة كاملة وقوله تعالي " كاملة " في الآية إشارة إلي نوع نظام العد الذي جاءت به آية الحج علي أساسه " - تجفيف منابع الارهاب ص 34 . أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وأخطر ما يراه الدكتور شحرور في منهجه هذا هو ما يختص بعلمي أسباب النزول والناسخ والمنسوخ وهما العلمان اللذان تواضع علماء الاسلام علي أنهما من علوم القرآن حيث يري أنهما ليسا كذلك وأنه لا يجوز الزعم مطلقا أن هناك أسبابا للنزول لكنه يميل إلي قول الإمام علي بن ابي طالب (مناسبات النزول) ويري أن هناك أسبابا دعت لولادة هذا العلم كترسيخ فكرة عدالة الصحابة وعصمتهم، والانتصار المذهبي والطائفي والزعم بفضل واحد من الصحابة بعينه .... أما علم الناسخ والمنسوخ فينكره تماما ويري أن النسخ تم في الرسالات والشرائع المختلفة وليس في الرسالة أو الشريعة الواحدة، ويري أن أسباب ولادته تعود إلي أسباب منها : تحويل الجهاد إلي غزو، وتحويل الدعوة من الحكمة والموعظة الحسنة إلي السيف، وتعطيل مفهوم العمل الذي يقوم عليه الحساب الأخروي واستبداله بمفاهيم غائمة فضفاضة كالشفاعة والولاية والوساطة والكرامة، وترسيخ مفهوم الجبر وطمس دور الإنسان نهائيا. وأخيرا تعطيل العقل وترسيخ مفهوم تفويض الغير باتخاذ القرارات .... كل ذلك يعرضه بتحليل الآيات القرآنية تحليلا عقليا ومنطقيا معتمدا علي دلالات اللغة العربية التي اعتمدها الخالق سبحانه أداة لينقل بها كلامه للمخاطبين ، أما ما يخص الاستبداد السياسي وتحالفه مع الاستبداد الديني فيعتبر بدايته الحقيقية في العصر الاموي : " قلنا إن الأمويين وضعوا لحكمهم غطاء أيديولوجيا يقوم علي طاعة أولي الأمر وتكريسا لواقع قضاه الله ولا سبيل إلي رده، فكان عليهم أن يقبلوا مفهوم القضاء والقدر بما يتناسب مع دعم وتثبيت ملكهم، لذا أسرع فقهاء السلطان إلي وضع تعريف يقول بأن قضاء الله هو علمه الأزلي وأن قدره هو نفاذ هذا العلم فالله يعلم منذ الأزل أن بني امية سيتسلمون الحكم، فإن كان هذا قضاء فلا سبيل إلي وقف القدر القاضي بنفاذ هذا القضاء، وكل من يعارض أو يحارب حكم بني أمية فهو إنما يعارض ويحارب قضاء الله وقدره، وبذلك ضمنوا الشرعية لملكهم من جهة، وبرروا مظالم حكامهم من جهة أخري، وقلنا إن العباسيين اتخذوا لحكمهم غطاء أيديولوجيا يقوم علي أساس القرابة من الرسول - صلي الله عليه وسلم- وحقهم في ميراثه، لكن هذا الغطاء إنْ أجدي ونفع بمساعدة أهل خراسان في استعادة الملك الذي استلبه بنو أمية من بني هاشم إلا أنه لا يجدي نفعا في الخلاف مع الطالبيين والكل هاشمي، فكان علي العباسيين أن يقبلوا آيات الإرث والوصية بشكل تصلح معه لأن تكون غطاء شرعيا لحكمهم، فصار الولد ذَكَراً رغم قوله تعالي ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) ورغم أن سامع هذا القول وقارئه لا يحتاج اليوم دكتوراه في علوم القرآن واللغة ليفهم أن الأولاد فيهم الذكور وفيهم الإناث، وأن الولد يكون ذكرا ويكون أنثي، ثم صارت الأنثي لا تحجب لإخراج فاطمة وأبنائها من اللعبة السياسية، ثم أرسوا قاعدة " لا وصية لوارث " لإخراج الإمام علي وأبنائه وأحفاده من لعبة الحُكم والمُلك ونسبوها للنبي - صلي الله عليه وسلم - فأسسوا بذلك لأخطر سابقة عرفها التاريخ الإسلامي وهي أن السنة - أي الحديث النبوي - ناسخة للقرآن، وأن القرآن أحوج إلي السنة من السنة للقرآن ... تعالي الله عما يصفون ." ص 110 - نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي - ومهما يكن من أمر الآن فإننا نعلم أن عرض مشروع ضخم كهذا في صحيفة يعتبر إخلالا بالمشروع وأفكاره الرئيسية .