كنتُ أقرأ كثيرا في طفولتي وشبابي لكنني لا أتصل بأحد ولا أعرض ما أكتبه إلا علي أصدقائي . وأبلغني صديق بأن هناك قصر ثقافة يجتمع فيه الأدباء، ويعرضون ما يكتبون، فذهبت معه، ودخلنا قصر ثقافة الحرية، فقلت له وأنا أصعد السلالم - كلما مررت أمام هذا المبني، ظننته صالة أفراح. فقد كنت أسمع أصوات الغناء والموسيقي تنبعث من نوافذه الكبيرة في طريق الحرية وشارع أحمد مرسي بدر. بهرت بالطراز المعماري الذي صممت به جدران المبني، وتوطدت علاقتي بالمكان، خاصة الحجرة الواسعة التي كنا نجتمع فيها كل اثنين مع موظفة القصر عواطف عبود. وصار القصر جزءًا من حياتنا، نتقابل فيه في أيام عديدة خلال الأسبوع، مرة مع القصة والشعر ومرة مع الموسيقي، سمعت جلال حرب يغني علي عوده في لقاءات فنية كثيرة، وأحببت أغنية عش الهوي المهجور من خلال سماعي لها من الملحن محمد أبو سمارة وهو يغنيها علي عوده.وقابلت في هذا المبني الجميل كثيرا من كتاب مصر الكبار:محمود تيمور ورجاء النقاش وصلاح عبد الصبور والدكتور حسين فوزي وأمل دنقل وجمال الغيطاني والدكتور سيد حامد النساج وغيرهم. كان يأتي إلي الإسكندرية بعض النقاد لمناقشة كتبنا، فيتفق موظفو الثقافة معهم علي إقامة ندوتين واحدة في قصر الحرية وأخري في الأنفوشي، فكان الكل يرغب في أن تكون ندوته في قصر الحرية، والمغضوب عليه يختارون له قصر ثقافة الأنفوشي البعيد عن وسط البلد. أنشئ هذا المبني عام 1877 ميلادية وسمي بنادي محمد علي نظرا لمساهمة أمراء الأسرة المالكة في تأسيسه واستلهم مصمم القصر - أثناء إنشائه الطراز المعماري الإيطالي والذي كان سائدا في ذلك الوقت خلال عصر النهضة وبلغت تكلفته وقتها مائة ألف جنيه . وحينما صودرت أموال وممتلكات أسرة محمد علي بعد ثورة يوليو 52 تم جرد القصر في ديسمبر 1961 وبيعت بعضها ومنها: ثلاث ثريات نادرة بيعت باثنين وعشرين ألف جنيه، وقاعة البلياردو التي اشتراها النادي السوري مقابل أربعمائة جنيه، وعرضت أدوات المطبخ التي اشتراها نادي الصيد. وقاعة القمار التي كان الملك السابق أحمد فؤاد الأول يلعب القمار فيها أيام كان مجرد أمير ، يشرب الخمر علي الحساب ، ويستدين من السعاة، وبلغوه بنبأ اختياره ملكا علي البلاد بعد أن رفض ابن أخيه ( كمال الدين حسين ) العرش، وهو يشرب الخمر في النادي ، وكانت أم الممثل عمر الشريف تلعب القمار فيها مع الملك فاروق ففي كتاب عمر الشريف يحكي حياته الخاصة لعبد المنعم سليم ص 76 : اتصل سكرتير الملك فاروق بأمه وأبلغها بأن جلالته ينتظرها في نادي محمد علي ، وبعد أن لعبت القمار معه أعادها إلي الفندق الذي تقيم فيه بسيارته. وفي عام 1993 تقرر تطوير وإصلاح القصر وظلت أعمال التطوير لمدة ثمانية أعوام حتي افتتح مرة أخري في يوم الاثنين 19 أكتوبر 2001 بتكلفة عشرين مليون جنيه وتحولت تبعيته من الهيئة العامة لقصور الثقافة إلي وزارة الثقافة مباشرة ليتم تحويله لصندوق التنمية الثقافية باسم مركز الإسكندرية للإبداع ، لكي يقدم إبداعا. بمعني أن قصور الثقافة تقوم برعاية وصقل المواهب، وعندما تصل إلي درجة النضج تتقدم لمركز الإبداع. وتحول المبني الجميل إلي ثكنة من الثكنات العسكرية. كتيبة من رجال الأمن بزيهم الرسمي، يسألون الداخل إليه، ويطلبون بطاقة تحقيق الشخصية. فتباعد الكثير من الأدباء، فهم لا يستطيعون التعامل بهذه الطريقة. رأيت موظف أمن يمنع شابا من حضور ندوة أدبية لأنه جاء بعد أن بدأت الندوة، فسألته: لماذا فعلت هذا؟ قال لكي أعلمهم النظام. ووصلت إلي باب المركز ورجل معه ابنه الصبي وموظف الأمن يطلب منه تحقيق الشخصية لكي يحتفظ بها حتي تنتهي الندوة. وكنت أعرف هذا الرجل، فهو يحضر الكثير من الندوات الثقافية والفنية، فقلت للموظف: - أتظن نفسك تعمل في نقطة شريف؟ (تقع نقطة شرطة شريف في الجهة المقابلة للقصر. وأصبح الآن قسم شرطة العطارين) حاول البعض أن يجعل من مركز الإبداع مكانا مختلفا عما يدور ويحدث في قصور الثقافة الأخري، لكنه فشل، ولم يخرج النشاط فيه عما يحدث في قصور الثقافة. ندوة شعرية، وأخري للقصة أو الرواية. كما أن الذين يديرون العمل في المركز ليست لديهم الخبرة الثقافية لدي موظفي قصور الثقافة التابعين لهيئة قصور الثقافة. لقد كان قصر ثقافة الحرية درة التاج للثقافة الجماهيرية في الإسكندرية، كان يضم مكتب رئيس الإقليم، ومدير المديرية ومدير القصر. وكان مضاءً طوال الليل، يحضره المديرون إليه كل مساء: محمد غنيم ووسام مرزوق وليلي مهدي ومحمود عوضين وغيرهم. وبعد أن ابتعد المبني عنهم تاهت الثقافة وتعثرت. ندوة القصة التي بدأت في أواخر عام 67 ومازالت تنعقد للآن، ليس لها مكان، تنتقل من جمعية الشبان المسلمين إلي مركز شباب الأنفوشي. ولا أدري لماذا كل هذا التعب. لماذا لا يعود قصر ثقافة الحرية إلي مكانه الطبيعي هيئة قصور الثقافة. وتعود ليالي الإسكندرية الأدبية والفنية؟! لا أدري لمصلحة من هذا العبث والتعنت. الإسكندرية مهلهلة ثقافيا، قصر الأنفوشي في الترميم، ولا حل لعودة التألق والإبداع الجميل إليها، إلا بعودة درة التاج إليها، قصر ثقافة الحرية. خاصة أن صندوق التنمية الذي كان يفخر بغناه لم يعد كذلك، فموارده كانت تأتي من هيئة الآثار التي أصبحت وزارة مستقلة . أرجو من وزير الثقافة أن يعيد الحق لأصحابه ويعود قصر ثقافة الحرية إلي حضن هيئة قصور الثقافة، من أجل راحة كتاب ومثقفي الإسكندرية.