"عجبت لأمتي.. تدفن فتيانها أحياء وتحيي موتاها، تُدين شرفاء ثوارها وتبرئ مغتصبيها!، تقدس ما تطلق عليه "هيبة الدولة-الكبير" وتُدنس حقوق الإنسان والحريات المدنية!" إن السلطة السياسية أبعد ما تكون عن السلطة الأبوية؛ فمصدر كل منهما مختلف، وموضوع كل منهما مغاير تمامًا لموضوع الآخر. فأصل السلطة الأبوية "الحق الطبيعي"، أما أصل السلطة المدنية "العقد الإرادي" الواقعي تبعًا لإجماع الأغلبية. كما أنه ليس بين الأب وأبنائه القصَّر مساواة في العقل والحرية، في حين أن هناك مساواة من هذا القبيل بين الحاكم والمحكومين. أما ونحن الآن نقترب من اختيار أول رئيس جمهورية لمصر، فالسؤال هو: كيف نحول العلاقة بين الدولة (الحكومة) ومواطنيها، من علاقة رأسية قائمة علي القمع والتسلط، إلي علاقة أفقية يندرج فيها المواطن تحت سلطة القانون والدستور فحسب.. علاقة يتم فيها إحترام الشعب من جهة حكومته، لقيام كِان مجتمعي سليم.. كيف؟ كيف نستطيع الوصول لسلام حق قائم علي التوازن بين سائر القوي المتنافسة (سواء كانت قوي مبادئ أو كيانات دولية) وليس ذلك السلام القائم علي قبر الحرية؟! هيبة الدولة تتردد عبارات رنانة في سياقنا المجتمعي/السياسي من قبيل: هيبة الدولة وكيفية الحفاظ عليها أو استعادتها، ومراكز القوي، المزايدة في الوطنية، "لا" الذلة الشيطانية، النفوذ والسيطرة، السيادة، الأغلبية(الساحقة و الصامتة).....إلخ. وكأننا في صحوة سياسية لا تنم سوي عن جهل عميق بعلم السياسة! الخلط شديد الضراوة بين الأخلاق والسياسة، فمن الطبيعي أن يحترم الأبناء والديهما تبعًا لمنطق العقل السليم، وكل الديانات (الطبيعية منها والسماوية)، لكن الدولة ليست الأسرة الكبري كي يكون حاكمها الأب الأكبر، ونقع ضحية للحيرة بين الدستور أولاً أم الرئيس! في حين أن السؤال الأجدر هو الدولة أولاً أم الحاكم؟ هل يختار الحاكم شعب بلاده؟! الدولة تعني تجمعاً سياسياً يؤسس كيانا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد، يمارس السلطة عبر منظومة من "المؤسسات الدائمة"، علي نحو حيادي، هدفه الأوحد "الصالح العام". وبالتالي فإن العناصر الأساسية لأي دولة هي الحكومة (كهيكل إداري مؤقت)، والشعب، والإقليم. ورغم تجذر "ثقافة" المجتمع الأبوي في تاريخنا العربي الحديث والمعاصر، إلا أنها الآن لن تستطيع إعادة التحول أو الميلاد مهما كانت شديدة الخفاء أوالدهاء؛ نظرًا لليقظة والسعي الدائم نحو تنمية العقل المجتمعي، ليضحي أكثر متانة ووعىًا سياسىًا، وعدم إحلال العادات والتقاليد والقيم(التي تكون في الأغلب دينية) محل عِلم الدولة أىًا كان نوعها "قومية، علمانية (فتحًا وكسرًا)، قانونية، مدنية... إلخ". اقصاء الآخر حينما قال كانط (الفيلسوف الألماني العملاق) "كن مستبصرًا كالثعابين وبسيطًا كالحمائم"، كان يدعو للجمع بين قوة الرؤية السياسية وعدم الأنانية أو التكبر والاعتلاء علي الآخرين كقوة أخلاقية؛ فويلات الحروب تأتي في الأصل من حب النفس الزائد وحب التملك. قطعًا ليس من صالح أحد أن يكون العالم البشري مجرد شخصيات متكررة، فهذا سيكون جدبًا واحتضارًا لا نموًا وحياة. علي الرغم من ذلك يتم إقصاء من يختلف عما تتبناه رؤاك كفرد أو مجموعة تمثل أغلبية في زمن ما، بالنفي أو السجن أو القتل ماديا كان أو معنويا. وتستمر حالات التخبط والصراعات وخلق الأزمات، كاستراتيجية لغلبة القوة، والزحف القهري للتصحر السياسي، ولعصر الإنسان البدائي. الحكومة الديمقراطية إن الحكومة الديمقراطية الصحيحة هي التي يكون فيها الشعب نفسه الحاكم والمحكوم؛ لأنه يصوت وينتخب ويعبر عن إرادته الحقة، ومحكوم لأنه يلتزم بهؤلاء الحكام الذين عىّنهم هو نفسه. يعمل علي مراقبة عملية الانتخاب، كي تكون علي درجة عالية من الشرعية السياسية. ومن ثم يتحول الشعب من مجرد وسيلة تنفيذية إلي صاحب سيادتين: تشريعية وتنفيذية، والحاكم يضحي مواطناً في "مهمة كبري" بين مواطنين متساويين. كما أن الديمقراطية كتجربة إنسانية بالدرجة الأولي-في أبسط تعريفاتها- نظام سياسي يقتسم فيه المواطنون البالغون فرص المشاركة في صنع القرارات، بمعني "حكم الشعب لنفسه". البيئة غنية بأفكار عن الشوري والمسئولية، والمساءلة القانونية، عن سيادة الدولة والحقوق المدنية، عن التوازن السليم بين السلطات "التشريعية، والقضائية، والتنفيذية"... أفكار تزدهر فيها الديمقراطية الحقة، فهل هذا أمر بعيد المنال؟ الحكام نواب مؤقتون كي نمتلك روح الحرية الحقيقية، لابد لنا بالتحرر الكامل من القيود الخارجية والداخلية، وهذه المعركة لا تتوقف أبدًا. المطلوب هو إدراك أن "الحاكم" نائب يتصرف بإذن الشعب، ومن حق الشعب أن يعزله من منصبه متي أراد ذلك. مع ضرورة إقامة نوع من التوازن بين المصلحة العامة (الرأي العام، الأغلبية،... إلخ) والحرية الفردية؛ حتي يتزن النظام الاجتماعي ولا تفسد الحياة السياسية باستبداد حكم الأغلبية. المطلوب هو قصاص عادل، وعدالة يتم تطبيقها لا اجراءات شكلية فحسب، وبالتالي يتحقق الأمن. وأخيرًا -كما قال الراحل جلال عامر- "إن الشعب استدعي السيد المشير للتصرف، وفوجئنا بعد عام بالسيد المشير يستدعي الشعب للتصرف! فإذا كان الشعب يستدعي المشير، والمشير يستدعي الشعب فإن ما يحدث ليس ولادة فارس أو حتي زعيم، بل مخاضاً مستبداً وطنياً أو محتلاً أجنبياً..!!". أبدًا لن نعود لفجر التاريخ ومعضلة "الفرعون الإله"، فالسيادة (إن وجدت) هي حتمًا للشعب وحده أينما كان وطنه.