خلت النظرة التاريخية لفلاسفة الإغريق والرومان إلي التقدم الحضاري من فكرة التقدم المضطرد للجنس البشري، بل علي العكس، رجح أفلاطون فكرة الدورات المتكررة من الترقي والانحلال والذي ارجعه إلي انحطاط العنصر البشري نتيجة للتعاون وأخطاء أنظمة الدولة وسوء اختيارات الزواج، وما يتبع ذلك من مواليد سقيمين ناقصي التكوين، بينما اعتقد سينيكا في أسطورة العصر الذهبي الغابر الذي عاش فيه الناس في بساطة فجة وسعادة، ترجع إلي براءتهم وجهلهم لا إلي حكمتهم وعندما يتدهورن عن هذه الحالة تصبح الفنون والمخترعات عاملا مهما مساعدا في زيادة التدهور بما تهيئه من أسباب الترف والرذيلة. كان جان باتستا فيكو أول مفكر حديث (1668-1744) يحاول وضع نظرية تفسر فوضي التاريخ وتعاقب التقدم والانحلال في تسلسل حتمي لافكاك منه، فقسم التاريخ إلي مراحل ثلاث - كما فعل هيجل فيما بعد - تبدأ باليقظة البدائية للاحساس والشعور ويسود فيها التسليم بعالم الالهة التي تحكم المصير، ثم يتلوها عصر الأبطال الذين يوجودن طبقة الارستقراطية الواثقة المستبدة التي تشكل عبر الخيال الملامح الأساسية لحضارة الأمم ، ومن نظم وفنون وأخيرا تحل الديمقراطية الداعية إلي الحرية والمساواة، والتي تنتهي بالفوضي والتفكك لتبدأ حركة التاريخ إعادة سيرتها الأولي. تحول الاعتقاد في دوام التقدم منذ بداية الثورة الصناعية في انجلترا ثم انتقالها إلي أوروبا واستخدام الكهرباء والسكك الحديدية والتلغراف في توحيده الشعوب، وإقامة المعرض الأول للصناعات الحديثة في القصر البلوري بلندن عام 1851، وبالإضافة لما لاقته نظرية «دارون» من دعم وتأييد من كل من «هربرت سبنسر» و«توماس هكسلي» أخذت فكرة البقاء للأصلح والارتقاء نحو مزيد من التكيف مع تراكم الطفرات السائرة في طريق التقدم إلي الأفضل والأكثر مواءمة للحياة، تثير التفاؤل باستمرار الرقي والتقدم المتواصل للنوع الإنساني وإحقاقا للحق، فإن التقدم الذي نلمسه حولنا في عصر ما بعد الصناعة أو المعلوماتية في جميع العلوم والتقنيات لا ينكره إلا شخص ملتاث العقل. إلا أن هذا الازدهار اليانع الذي حققته المدينة الحديثة لم يمنع الكثير من الفلاسفة والمؤرخين من رؤية جوانب أخري من الانحلال أو التدهور الحضاري، أو علي الأقل عدم التقدم المتوازي في جميع المجالات، فهناك تسارع في مناحي وتوقف بل وتراجع في مناح أخري، فمثلا لم يتقدم علم النفس خطوة واحدة منذ قول عرافة معبد دلفي ل«سقراط» «أعرف نفسك بنفسك» إلي أن أتي «فرويد» بنظرية اللاشعور، بينما ظلت العلوم الطبيعية تتنامي دون توقف منذ عصر النهضة وحتي اليوم. عندما أصدر «توماس مان» روايته «آل بودنبروك» عام 1901 فإنه كان يسرد مراحل سقوط عائلة ارستقراطية عبر تحولها إلي البرجوازية الرأسمالية ثم اكتساب الجيل الأخير للحساسية الفنية المرهفة والمرضية. بعيدا عن الفن والروايات نجد في تاريخنا المصري قائد الكتيبة الألبانية «محمد علي» الذي حضر إلي مصر للمشاركة في طرد الحملة الفرنسية وتمكن من إحكام سيطرته علي مصر بعد معارك ضارية اختتمها بمذبحة القلعة التي أجهز فيها علي 470 مملوكا وأسس مملكة تتوارثها سلالته، ثم نري حفيده «الخديو إسماعيل» ينغمس في مشاريع عمرانية رأسمالية وأخيرا نشاهد خاتمة حفيد الحفيد «فاروق» الأول الذي استغرقته الأمور التافهة حتي أطاح به عصبة من صغار ضباطه. اختلفت الأوضاع اختلافا بينا منذ اختراع الطباعة والتصوير الضوئي وكل ما تلاهما من أدوات تسجيل ونقل المرئيات فإذا ذهبنا إلي التطور في مجال الفن التشكيلي نجد أن إطلاع الأجيال الحديثة علي زخر لا ينفذ من أعمال أقرانهم، في سائر أرجاء المعمورة، ذلك باختلاف أصولهم الحضارية والأبعاد الزمنية الموغلة في القدم والتي تطرح بين أيديهم اليوم منجزات حضارات بائدة، أو نائية، فما أيسر أطلاع الجيل الجديد علي مئات بل آلاف اللوحات يوميا، والتعرف علي عشرات المناهج والأساليب الفنية، تلك الميزة كلفت فناني الماضي الشيء الكثير من معاناة الترحال المضني ليشاهدوا بعضا منها فقط، وكم كان فنان الباروك البلجيكي روبنز محظوظا بتكليفه بالبعثات الدبلوماسية اي أتاحت له الاطلاع علي تطورات الفن في البلاط الاسباني والفرنسي في القرن السابع عشر. ولكن هل أسهم هذا الإغراق في التعرف علي إبداعات آلاف الفنانين الآخرين والتمرس علي محاكاة مئات الأساليب والحيل والمهارات في تمكين الفنان الحديث من تحقيق تقدم حقيقي في قدراته الإبداعية؟ لقد أصبح بوسع الفنان الحديث الاستفادة من هذا الموزاييك الهائل من فيض النماذج الفنية التي صارت ملكا خالصا له الآن فينتزع نتفا وشظايا من هذا التراث الفني الضخم ليعيد تركيبها في تشيكلات جديدة تظل تتبدل وتتنوع متمتعة بالجدة والطرافة بلا حدود وإلي مالانهاية تقريبا، مثيرة بذلك للدهشة والصدمة دائما، ولكن هذا الأسلوب لا يفضي إلي طراز فني عظيم، فهو يشبه المحاكاة الساذجة التي يمارسها الفنان المبتدئ عندما يظل ينقل إلي مالانهاية ملامح الوجوه معتقدا أنه يقدم الجديد باستمرار بقدر اختلاف ملامح الأفراد. لكن الطراز الفني العظيم هو فرع من كيان عضوي متكامل ذي رؤية حضارية شاملة يتحدد للإنسان من خلالها رؤياه الميتافيزيقية نحو الوجود، فينمو الفن والدين والفلسفة كوحدة حية تتشكل أجزاؤها وفقا لمشروع خطة كلية موحدة مسبقة تهيمن علي نمو الأجزاء ، فالكل أكبر من الأجزاء كما أوضحت لنا نظرية الجشطلت، وأقل تعديل في أي جزء يستتبعه تعديل في ترابط الكل ويؤثر علي باقي الأجزاء، وهي جميعا تنمو معا لتشكل ملامح هذا الكل وفقا لخطته المسبقة. تلك الفكرة ذاتها قد عبر عنها في القرن الخامس عشر المعماري الإيطالي ليون باتستا، في تعريفه للجمال باعتباره الانسجام الحاصل بين الأجزاء المنسقة معا في أي موضوع بنسب وعلاقات دقيقة بحيث لا يكون هناك مجال لإضافة شيء آخر، أو تغييره أو إزالته اللهم إلا إذا أردنا بهذا الموضوع سوءا. ولعلنا نلتقي في مجال آخر قد يبدو بعيدا عما نحن بصدده من قضايا الفن، ولكنه يستهدف الغاية نفسها، فنحن نعرف كم يستنكر الدين الإسلامي ما يسمي «البدعة» ويقصد بها أي إضافة أو حذف يستهدف تعديل محتوي العقيدة، وهذا يعني أن العقيدة هي أيضا كيان عضوي ونسق كلي متماسك ينمو حتي يكتمل البناء في ذاته وبذاته ولا يصح إدخال أي تعديل لاحق عليه. يبدو أن مثل هذا التصور عن طبيعة الكيان العضوي للفن التشكيلي غائب تماما عن الممارسات الحالية، لأن هذا الفن لم يعد يشكل جزءا جوهريا من اهتمامات عصر ما بعد الصناعة إلا كمجال للاستثمار الرأسمالي ولا يدخل في نسيج الرؤية المعاصرة للوجود التي ترتكز علي فكرة الترف الاستهلاكي ويهيمن عليه الاستمتاع اللحظي، الذي يتوق إلي الإفراط في التغيير السريع والتجديد الدائم والتبديل المستمر تجنبا للملل، وهو ما يجعله متقبلا فكرة الزوال، وإعادة التدوير التي لا تتيح الزمن للنمو الهادئ.