أي فوضي خلاقة تلك التي كانت تقصدها «كونداليزا رايس» وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في كتابها الذي نشرته عام 2003 عقب خروجها من المنصب الوزاري والذي تنبأت فيه بثورات الربيع العربي وحالة الفوضي التي حدثت في أعقابها خاصة في مصر وهذا الانفلات الأمني والأخلاقي، صحيح أن هذه الثورات قد نجحت في الإطاحة برءوس النظام في كل من تونس وليبيا ومصر - والبقية تأتي- كما يبدو من الأحداث الجارية في المنطقة سواء أكان هذا تأثرا أو تدبيراً - طبقاً لنظرية المؤامرة، لكن إذا كان هذا الانفلات قد نتج عنه سيطرة المدعين أو المنتفعين والبلطجية والمتشدقين بالشعارات، كل هذا قطعاً «يعقب» الثورات في كل بلدان العالم نتيجة تأثير الأحداث علي الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكن من غير المعقول أن تعم «الفوضي غير الخلاقة» عبر هذا السيل الجارف من القنوات التليفزيونية الغنائية والتي تبث لنا طوال 24 ساعة يوميا كلمات هابطة وسفه وذات إيماءات بذيئة مصحوبة بموسيقي هي الأقرب لما يعرض في أفراح العشوائيات تحت شعار «أصل الفن شعبي» وكأن هذه الجملة هي إشارة المرور لهذه الركاكة فهل آن الأوان ان نوقف هذه المهزلة التي أساءت لفن الغناء الأصيل الذي أهدر تاريخه ودمه علي يد مجموعة من مطربي التوك توك والميكروباص وعمال سوق السمك، والدين أصبح يحتكر جهودهم حالياً تاجر اللحمة الذي تحول بقدرة قادر أو ضربة حظ «والله أعلم» إلي أكبر منتج سينمائي في مصر، هذا بالطبع إلي جانب بعض نجمات العري والرقص الشرقي وهي الخلطة السحرية والمكررة في جميع أفلامه، والتي كانت سبباً في تحول هؤلاء إلي نجوم علي شاشة التليفزيون والسينما بعد أن كنا لا نسمع لهم إلا من خلال الإذاعة الداخلية لمترو الأنفاق والميكروباص ومحلات عصير القصب. أغاني التوك توك وهناك بالطبع العديد من الأساليب والقوانين والتشريعات، صحيح أن النظام السابق كان قد شجع علي غرس بذور هذه الفوضي وتنميتها حتي أصبحنا نري شبابنا من خريجي الجامعات سواء الرسمية أو الخاصة وحتي الجامعات الراقية مثل الأمريكية والألمانية ومدارس اللغات يتحدثون جميعاً لغة سائقي الميكروباص والسباكين وماسحي الأحذية حتي أصبحت هذه اللغة هي السائدة وبدلا من أن نرتقي بلغة «السوقة» لنرفعها للغة «النخبة» أصبحت «النخبة» تتحدث بلغة العشوائيات وانقلب الهرم وأصبح الشعب بكل طوائفه يتحدث بلغة واحدة هي لغة الشارع؟! وتماشيا أو مواكباً لحالة الفوضي العارمة التي تمر بها البلاد دون ضابط أو رابط، أو كما يقول العامة «بلد مفيهاش حكومة»؟؟ صحيح أن هذه وإن قلنا عليها تجاوزاً «أغاني» قد انتشرت في السنوات العشر الأخيرة من العهد البائد تحت سمع وبصر المسئولين - باعتبارها- كما أوهمونا لغة الشارع أو لغة الشباب الجديدة، إلا أنها لم تتعد إذاعتها كما أشرنا مترو الأنفاق وإخراج العشوائيات وما أكثرها في مصر، لكن ان يتحول هؤلاء إلي نجوم قنوات الأغاني التي تبث عبر القمر الصناعي المصري المحصنة بقوانين هيئة الاستثمار وليس لوزير الإعلام أو اتحاد الإذاعة والتليفزيون أو شركة النايل سات أي هيمنة عليها كما يقولون وبالتالي المصنفات الفنية وجميعهم المؤلفين ونقابة الموسيقيين، يعني باختصار مالهوش كبير؟! مدفوع مقدما والسؤال الذي يبحث عن إجابة ستظل حائرة بالطبع وسط هذا الانفلات من هؤلاء المطربين والمطربات والذين لم نسمع عنهم من قبل حتي من خلال إعلانات كباريهات شارع الهرم وعلب الليل! إذن من الذي أذن لهم بالغناء وأين شرطة الآداب؟! من المؤكد بالطبع ان هؤلاء المطربين والمطربات سيستمر ظهورهم علي شاشات القنوات باعبتاره «مدفوع الأجر مقدما» وربما هذه المعلومة يعلمها الكثيرون من المشاهدين -بأن هذه القنوات تعتمد في تمويلها علي عدة مصادر أولها بالطبع غسيل الأموال إلي جانب رسائل الS.M.S وإعلانات المنشطات الجنسية والرقية الشرعية وأعمال السحر والدجل وتفسير الأحلام وزيت شعر الملكات وأدوية للأعشاب الطبية.. إلخ. الأهم من ذلك مقابل إذاعة الأغاني ويتراوح في المرة الواحدة ما بين 500 جنيه إلي ثلاثة آلاف طبقاً لأهمية المطرب أو شعبية المطربة، وإذا ماكانت الأغاني جديدة أو قديمة أو إذا كان هذا الكليب للترويج لمطربة جديدة كانت في الأصل راقصة في كباريه أو مدعومة من رجل أعمال عربي أو أنها تروج لنفسها في سوق رجال الأعمال؟! وهناك بالطبع مجموعة من مساعدي الإخراج والإنتاج يقولون تمرير هذه الكليبات علي هذه القنوات مقابل مرتبات شهرية يعني الموضوع كله مصالح وسبوبة والمستهدف في النهاية هو المشاهد؟ وفي رأيي بدلاً من ان نشغل أنفسنا باتهام الممثلين بازدراء الأديان أو الخروج عن الآداب العامة أو العري في الأعمال الفنية «السينما» أم نسعي لوقف هذه المهزلة الغنائية التي تحدث عبر شاشات القنوات الخاصة - أم أن هذه القنوات محصنة بالفعل - ليس بقوانين هيئة «الاستثمار»- كما يدعون، لكن لأن الممولين لها إما من فلول النظام السابق أو جماعات أو حكومات عربية تهدف إلي تدمير البقية من الثقافة المصرية التي كانت يوما ما مهداً للحضارات. واحسرتاه ومما لا شك فيه أن ماحدث نتيجة هذه الفوضي في مجال الأغنية كان له مقدمات سبقته بعدة سنوات بظاهرة احتكار الشركة الخليجية «إياها» لأكبر مجموعة من نجوم الغناء في مصر، وكان الهدف المعلن وقتها إنتاج ألبومات وتنظيم حفلات وحملات دعاية ضخمة، لكن الهدف غير المعلن كان تصفيتهم وإخلاء السوق لحساب المطربين الخليجيين والمطربات اللبنانيات باستخدام سلاح المال الذي قدمته في البداية لهم بالملايين، وللأسف فقد اكتشف هؤلاء المطربون والمطربات المصريون أن هذه الشركة قد باعت لهم «الأوهام» حتي وصل لاختفاء أصوات نجوم الغناء ليس في مصر فحسب، لكن من وصلت شهرتهم وتعدت الحدود الإقليمية إلي العالمية، وأصبحنا نتساءل أين عمرو دياب، محمد فؤاد، محمد منير، مدحت صالح، علي الحجار، هاني شاكر، شيرين عبدالوهاب، خالد سليم ومحمد حماقي، والقائمة طويلة وأصبحت الساحة خالية لأمثال عماد بعرور، سعد الصغير، محمود الحسيني، وبقية قائمة نجوم أفلام السبكي واحسرتاه علي الأغنية المصرية وأخيراً هل المعقول أن يكون لدينا علي القمر الصناعي المصري هذا الكم من القنوات الغنائية منها علي سبيل المثال «المولد، ابن البلد، شعبيات، مزيكا، ميلودي هيتس، تايم» علي سبيل المثال هذه القنوات تذيع علي مدي 24 ساعة يومياً نفس الأغاني ونفس الأسماء التي تعمدت ألا أذكرها حتي لا يعتبروا أن أسماءهم مشهورة ويستحق الإشادة بها في الصحف والمجلات، أما بالنسبة للشاشة فانهم يدفعون مقابل ظهورهم عليها، وأرجو أن يذكروا أنهم عندما يتوقفون عن الدفع سيتوقف هذا البث ولا يصح إلا الصحيح وسيبقي في النهاية المطرب الأصيل خالدا ولن ينسي المشاهد أو التاريخ نجوم الغناء الشعبي محمد رشدي، محمد العزبي، محمد طه، محمد قنديل، محمد عبدالمطلب وشفيق جلال، حتي وان لم تذع اغنياتهم علي تلك الشاشات؟!