لا أدري أهو جحود منا أم نسيان أم هي ذاكرتنا المهترئة التي تلقي أحيانا ستارا غامضا علي ملامح من تاريخنا السينمائي يفترض بنا ألا ننساها ونرفعها إلي مركز عال من نفوسنا وأن نفخر بها كلما جاءت مناسبة أو جرنا الحديث عن تاريخنا السينمائي. دخل كمال الشيخ باب السينما العريض من دهاليزه الخلفية.. حيث ابتدأ حياته الفنية متجها إلي المونتاج «التوليف السينمائي» الذي تعلم من خلاله كيف يضبط إيقاع أفلامه هذه الميزة التي ظلت تلازمه بقوة حتي آخر الأفلام التي أخرجها. وشأن زميله صلاح أبوسيف انتقل من المونتاج إلي دنيا الإخراج التي كانت دنياه الحقيقية واستطاع أن يثبت من أول الأفلام التي أخرجها نظرة سينمائية متجددة وإحساسا شديد الوعي بالمواضيع التي يطرحها، بل إن نظرته السينمائية اتسمت علي عكس كثير من رفاقه بجدية شديدة بالتعامل ورهافة في التعبير لم تفارقه في أي من أفلامه مهما كانت طبيعة الموضوع الذي يعالجه. في «حياة أو موت» الذي يعتبر علامة فارقة من علامات السينما المصرية البوليسية نهج كمال الشيخ منهجا شديد الخصوصية بالسينما المصرية لم يكن معروفا قبله. استطاع وهو المخرج الشاب الذي يحاول أن يضع قدميه علي أول السلم أن يحقق أكثر من تحد لم يجرؤ أي من المخرجين المخضرمين الذين سبقوه أن يلجأ إليها. خرج بكاميراه إلي الشارع ليصور أحداثه كلها تقريبا وهي الطريقة أو الأسلوب الذي اتبعه عباقرة السينما الإيطالية عندما أسسوا حركتهم المسماة «الواقعية الجديدة». ابتعد تماما عن نظام النجومية السائد والمسيطر علي السوق آنذاك، وربما حتي اليوم معتمدا كل الاعتماد علي طرافة موضوعه وعلي البعد الاجتماعي المتجلي فيه. ركز علي الملفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للشارع المصري دون أن يضطر لرفع الصوت مرة واحدة خلال أحداث الفيلم. كما وجه انتباه المتفرج إلي البعد الإنساني الكامن وراء الأحداث. فيلم استثنائي هذه الميزات كلها التي لم تكن لدونه مثيلا في أي فيلم مصري سبقه، جعل من «حياة أو موت» فيلما استثنائيا في مسار وحركة السينما المصرية، وفتح الباب واسعا أمام كمال الشيخ ليعبر من خلال السينما بعد ذلك ومن خلال أفلام كثيرة يعرف كيف يختارها بدقة فائقة عن نظرته للعالم وعن موقفه منه. كان «حياة أو موت» نقطة انطلاق لا يمكن التراجع عنها، وجاءت أفلام كمال الشيخ التالية وكأنها نجوم مجرة سماوية تضيء الظلام الذي كانت تعيش بين أطرافه سينمانا الطويلة. يحاول بعض مؤرخي السينما المصرية أن يصنفوا أفلام كمال الشيخ ضمن مجموعتين، الأفلام البوليسية والأفلام السياسية، وكما كان كمال الشيخ رائدا في المجال الأول حقق للسينما المصرية ما كانت تتمناه منذ بداياتها الحقيقية في فيلم لا شيء أي أن تكون تعبيرا سياسيا وصوتا عالي النبرة يقول الكثير دون مباشرة ودون تطويل أو تنازلات. كمال الشيخ في «أرض السلام» كان أيضا أول مخرج مصري يعالج القضية الفلسطينية في تؤدة وهدوء وحيادية مدهشة واستطاع أن يتغلب علي ميلودرامية أحداثه بنوع من الرقة والانسيابية لم تتسن لكثير من الأفلام. هذا الاتجاه السياسي الشديد الجرأة تجلي بعد ذلك في أكثر من فيلم أخرجه كمال الشيخ ووضعه دون شك في رأس قائمة المخرجين السياسيين العرب. أفلام كمال الشيخ السياسية تميزت بجرأة غير مسبوقة مغلفة بكثير من الدبلوماسية أحيانا وبشيء من الحدة لا يماثلها أي فيلم آخر. كما في فيلم «ميرامار» المأخوذ عن قصة شهيرة لنجيب محفوظ أو «اللص والكلاب» حيث تجاور البعد الاجتماعي والبعد السياسي في مزيج لم تنجح السينما المصرية في تحقيق مثيل له إلا بأفلام قليلة. أما في «غروب وشروق» فقد تجرأ كمال الشيخ لأول مرة أن ينتقد بصوت مرتفع النظام البوليسي القمعي من خلال قصة عائلية محبوكة كتبها جمال حماد. وفي «الرجل الذي فقد ظله» دخل كمال الشيخ إلي دهاليز وسراديب الصحافة وكشف أسرارها الخفية والمعلنة.. وحقق بسهولة فيلما رائدا سواء عن طريق المعالجة «رؤية الأحداث من خلال أصوات مريضة» أو اختراق الممنوع.. كما فعل لكن بشكل أقل قوة وتأثيرا في فيلم «الهارب». ويبقي «الصعود إلي الهاوية».. ذروة عطاء كبري في حياة كمال الشيخ الفنية وفي تعبيره السياسي الذي اتسم دائما بمزيج من الحياء والجرأة قل لمخرج مصري أن عرف كيف يجمع بينهما في «شيء في صدري» حاول كما أن يحقق بنسبة غير متعادلة النجاح الذي حققه في «الرجل الذي فقد ظله» معتمدا علي تصوير شخصية رجل أعمال شهير تداخلت السياسة بصفقاته ومؤامراته وذلك قبل سنوات طويلة من تزاوج السلطة والمال الذي أصبح يشكل ظاهرة من ظواهر ما قبل ثورة يناير. لكن أعلي ما حققه الشيخ في هذا المجال كان دون شك «علي من نطلق الرصاص» الذي قدم عن سيناريو لرأفت الميهي، حيث وصل التمازج في السياسة العاطفة بين الواجب والقلب إلي مستوي تراجيدي لم تعرفه السينما المصرية من قبل. الموجة السياسية المتدفقة التي كونت أفلام الشيخ في هذه الفترة حاولت أن تعطيه لقب مخرج السينما المصرية السياسي الأوحد.. وهي صفة رفضها بحزم وكبرياء كمال الشيخ علي مدار مسيرته، كما رفض أيضا تشبيهه بهيتشكوك مصر إثر نجاحه الأول الساحق في تحقيق بعض الأفلام البوليسية: «لكن اعترف» و«الليلة الأخيرة» و«من أجل امرأة». ولكن تبقي نقطة ضعف لدي الشيخ لم يحاول قط أن ينكرها.. يسند نجاح فيلمه «حياة أو موت» وهو تركيزه علي براءة الطفولة وقدرتها علي مسح الظلال عن القلب البشري الفاسد. وهذا ما كرره مرة أخري في «ملاك وشيطان» حيث تمكنت براءة طفلة من إعادة النور إلي قلب مجرم قاسي القلب قام باختطافها. ولم ينس الشيخ حتي في الفيلم الغنائي الوحيد الذي أخرجه أن يترك للطفلة أن تلعب الدور الذي يسيطر علي الأحداث في مشهد ميلودرامي بحت أكد أن حساسية المخرج ورؤيته الناصعة. الإطار النمطي وتبقي ميزة أخري للشيخ ضمن ميزات كثيرة لا تنسي.. هي قدراته علي إدارة ممثليه وتوظيف البعض منهم خارج الإطار النمطي الذي تعود أن يراهم به الجمهور. كما صنع ليلي فوزي إذ جعلها تنقلب إلي امرأة شريرة متآمرة في «من أجل امرأة» لا تتورع عن شيء في سبيل تحقيق مآربها. أو مديحة كامل التي واجه فيها التحدي الأكبر عندما عهد إليها أن تلعب دور الجاسوسة في «الصعود إلي الهاوية» الدور الذي رفضته قبلها كل ممثلات مصر والذي حولها مرة واحدة إلي «سوبر ستار» لها مكانتها. أو حتي فردوس عبدالحميد عندما عهد إليها وهي صديقة الخبرة بالسينما دورا دراميا معقدا في «علي من نطلق الرصاص». وحتي فاتن حمامة نفسها التي تعتبر أيقونة لا يمكن المساس بها قدمها في دور مختلف في الفترة الأخيرة دور أخذها رسميا إلي مهرجان «كان». أما شادية فقد انطلقت به بداية عملاقة في «ميرامار» وفي «اللص والكلاب» ورأيناها كما لم نرها قبلا. كما أعطي هدي سلطان وجها جديدا لا نعرفه عنها في «شيء في صدري». في الفترة الأخيرة من عطائه الفني مر كمال الشيخ بأزمة نفسية أثرت عليه كثيرا لابتعاده عن العمل السينمائي ولعدم رغبته في إهانة كبريائه الفني وقبوله وهو في آخر العمر إخراج أفلام كان يرفضها وهو في أوج شبابه. ومع ذلك ظلم النقاد كثيرا فيلميه الآخيرين «الطاووس» و«قاهر الزمن» فرغم أنهما لا يرتقيان إلي مستوي رؤيته السابقة إلا أنهما لم يكونا علي هذه الدرجة من السوء التي حاول البعض أن يلصقها بهما. ورغم أضواء التليفزيون الخادعة وبريقه الزائف رفض كمال الشيخ الاستجابة لإغراءات الشاشة الصغيرة مفضلا الاحتفاظ بوفائه لحبه للسينما كما عرفها وكما مارسها، وكما دافع عنها. كمال الشيخ قامة كبيرة من قامات السينما المصرية وهامة فنية نعتز بها، ولا أعرف سببا حقيقيا للتجاهل الذي أحاط باسم مخرج أعطي كل ما عنده للسينما دون أن يطلب أي مقابل وأدارت له السينما ظهرها دون حق في أواخر عمره وحرمتنا وحرمت كل عشاق الفن الأصيل من عطاء فني لا يتكرر إذ يبدو حقا أن زمن المعجزات قد ولي إلي الأبد.