يحتفل المصريون وعلي مدي العام ومنذ قرون طويلة بالعديد والعديد من الأعياد الدينية الشرعية مثل رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحي وأعياد فاطمية وفرعونية مثل يوم عاشوراء وشم النسيم، أيضا أعياد قومية مثل أعياد الاستقلال والتحرير والنصر... إلخ. أيضا هناك مناسبات وأعياد متوارثة من الأجيال ذات مغذي ديني تدعو للقدوة والموعظة الحسنة بالسابقين من الأنبياء والأولياء الصالحين ومنهم عيد الصابرين- أو كما يطلقون عليه في العريش- عيد أربعاء أيوب، والذي يحتفلون به في الأسبوع التالي لشم النسيم سنويا. إذا قدر لك يوما زيارة مدينة العريش في سيناء ورأيت الرايات البيضاء ترفرف في شرفات المنازل وأسطح المباني وواجهات المحلات وفي أيدي الصغار والكبار فاعلم أن اليوم عيد الصابرين - عيد استعادة الصحة والمال بفضل الصبر والإيمان وهذا العيد يأتي سنويا في يوم أربعاء ولذا يسمونه «أربعاء أيوب» حيث يمر البعض من القري والأحياء الشعبية في هذا اليوم مناديا: « من السنة للسنة يا رعرع أيوب فيخرج الناس متاهفتين علي شراء هذا النبات الطيب الرائحة ليغتسلوا به إحياء لسنة سيدنا أيوب عليه السلام حين اغتسل وشفي من مرضه في هذا اليوم. صحيح أنه عيد قومي في كل أنحاء مصر لكنه في العريش له منزلة خاصة حيث يعتقدون هناك أنه البقعة المقدسة التي اغتسل فيها أيوب، توجد هناك في أحد شواطئ العريش ويطلق عليه شاطئ «أبو صقل» وفي هذا اليوم تجد مواكب المرضي والمعافين ومشوهي الحروب تسير في أفواج علي دقات الموسيقي الشعبية إلي هذا الشاطئ المبارك للاغتسال بمائه المقدس وهم يغنون «رايحين نجول الربدة .. ربك يكرم عبده». وعلي مدخل شاطئ «أبو صقل» تتسارع دقات الطبول وتزدحم أسر المرضي والمعافين مرددين «الدح يوه الدح يوه .. معانا كل اللي يحبوه» ومع التصفيق الحاد والرقصات العنيفة يحيط أهل هذا المريض أو تلك المريضة وتتوافد المواكب الواحد تلو الآخر بضجة موسيقية أخري بشخص يتوكأ علي عكازين ومن وراءه يغنون «علي الدلعونة .. علي الدلعونة ريح الشمال غير اللونا». وشاطيء «أبو صقل» يحتل مساحة كبيرة من الرمال التي تزدحم في هذا اليوم بعائلات المرضي تحت ظلال النخيل ومع بداية رحيل الشمس يهرع الجميع إلي المياه يغتسلون حيث تتسارع دقات الموسيقي .. وأكف التصفيق وهم يغنون: علي ما أغلاها/ فوج الراس/ علي ما أغلاها/ فوج الراس/هاتو معانا/كل الناس. وعلي دقات الموسيقي يحمل أحد الرجال صبية صغيرة تلف رأسها وساعدها بضمادة كبيرة ويظهر بين الجمع شيخ مهيب، شديد بياض الثياب، ذو لحية حمراء كثيفة يتقدم ناحية البحر رافعا يده إلي السماء بصوت جهوري يعلو علي أصوات الطبول والتصفيق متضرعا إلي الله يارب .. يارب .. يارب وأيوب إذ نادي ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ياشاف يا كاف .. يا معافي يارب .. يارب. وعلي حافة البحر أحد المقعدين يدحرج كرسيه داخل المياه منشدا باكيا: يا مال الشام والله يا مالي/ طال المطال ياحلوة تعالي/ طال المطال طال وطول/ وأنا لا أتغير ولا أتحول. ويتسابق الجميع في إلقاء أنفسهم داخل المياه غير عابئين بما قد يحدث بعد ذلك يخرج الكل من الماء تبقي الأجساد ولكن النفوس مستريحة والأمل في الشفاء يتجدد. أصول دينية ورد ذكر أيوب عليه السلام في القرآن الكريم في أربع سور هي «النساء، الأنعام، الأنبياء، ص» وكان أيوب نبيا من ولد اسحاق بن إبراهيم من ذرية يوسف بن يعقوب بن اسحاق عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.. كان أيوب عبدا صالحا من عباد الله أراد الله أن يمتحنه في ماله وأهله وجسمه .. فضاع ماله وأصبح فقيرا بعد أن كان أغني الأغنياء وفقد أهله ومرض جسمه لكنه صبر وشكر واستمر في عبادته . وفي أحد الأيام خرج أيوب إلي الجبل ودعا ربه وناداه « واذكر عبدنا أيوب إذ نادي ربه.. أني مسني الشيطان بنصب وعذاب» سورة ص 41 راح أيوب يبتهل إلي الله وهو يبكي .. وأمره الله «اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب» سورة ص 42 أمره الله أن يستحم في عين من عيون المياه في الجبل .. أمره أن يشرب من ماء هذه العين وجري أيوب فاغتسل وشرب .. ولم يكد يشرب آخر جرعة من الماء حتي أحس أنه شفي فجأة.. زالت عنه الحمي وذهب عنه الألم ووهب الله لأيوب أهله ومثلهم معه رحمة من عنده سبحانه ولم يعد أيوب وحيدا .. وهبه الله اضعاف ثروته كرما من عنده وعادت صحته بعد طول المرض وشكر أيوب الله.. وجزي الله أيوب علي صبره حيث مدحه الله في قرآنه الكريم «إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب» سورة ص 44 . وفي ابتلاء الله لأيوب وجد رواة السير الشعبية والقصص جمالا لإشباع الخيال. ومن هؤلاء الرواة طائفة «المداحين» التي تجوب القري والنجوع في مواسم الحصاد والموالد .. حيث ينشدون علي الدفوف والمزمار أشهر قصص الأنبياء والأولياء الصالحين.. وأكثرها طلبا من أهل الريف هي قصة «أيوب لما ابتلي»: ياما جري لأيوب علي حكم الزمن/ وبنت عمه علي البلاوي صابرة/ وبنت عمه بنت الأصول الطيبين/ لا يوم شكت منه ولا الخال دري/ أول سنة يا أيوب قلنا تنقضي/ قلع ثياب الضر بعد الغندرة/ قلع ثياب الضر من بعد الهنا/ نايم علي فرشه حالاته معبرة/ رابع سنة طرحوك يا أيوب بالغلا/ سبع مرات علي الجبين مسطرة/ خامس سنة يا أيوب بقي رق الغلال/ والدود من جسمه طرح وملا الثرا/ تنط الدودة تيجي في الخلا/ يلمها بإيده الشريفة الطاهرة/ يقولها يا دودة بتاكلي قسمتك/ رب اجعل للصابرين المغفرة. عاشق المداحين ويقول الباحث الراحل «شوقي جمعة» في دراسة له عن أسباب انتشار ملحمة أيوب كان الفنان «زكريا الحجاوي» يتعقب هذه الطوائف من فرق المداحين من قرية الرمزية ولذا اطلق عليه «عاشق المداحين» لقد فتني «زكريا الحجاوي» بأغاني المداحين وخاصة «أيوب لما ابتلي» وفي أحد الأيام ارشده صديقه الفنان الشعبي «أبو دراع» إلي فتاة شابة مداحة ذات حنجرة ذهبية تدعي «خضرة محمد خضر» واكتشف «الحجاوي» أن هذه المداحة الشابة تغني من مقام الحجاز بعد أن استمع إليها ومن والدتها إلي ملحمة «أيوب لما ابتلي» بشكل أروع بكثير عما سبق أن سمعها ولذا قرر أن يتبناها فنيا. وفكر «الحجاوي» بخياله الإبداعي الخصب أن يقدم ملحمة أيوب في إطار إذاعي بعنوان «أيوب المصري» وفيه أعطي الجنسية المصرية لأيوب أو قل أعطي المصريين الجنسية الأيوبية فمن هو أكثر معاناة بالصبر من المصريين كما يقول: إنهم يتحملون الصبر والأسي منذ آلاف السنين. وبفضل الراديو انتشرت قصة أيوب في كل أنحاء مصر خاصة بعد أن قدمها زكريا الحجاوي من خلال مسرح فرقة الفلاحين التي انشأها في مارس 1960 مستعينا بالمداحين وفرق المزمار والتحطيب والربابة في عرض مسرحي أسماه «الأوبرا الشعبية» أيوب المصري.