يوما ما طلب مني أحد الأصدقاء أن أكتب مقالا عن أزمة الخبز وازدحام الأفران في مصر وكان ردي آنذاك أنني بمقالي هذا لسوف أغضب الناس وأرضي الحكومة ليس لأنني من أنصار الحكومة - والعياذ بالله - بل لأنني أصنف نفسي دوما بأنني (معارض لنسق المجتمع) وهي معارضة تحتاج الي جلد أكثر بكثير مما تحتاجه انواع المعارضة الأخري وأن امثالي ممن اتخذوا نهج نقد المجتمع دائما ما يجدون أنفسهم في موقف الدفاع عن الذات تبرئة لذواتهم من لوائح اتهامات كثيرة , حيث ان من ينحي نحو نقد المجتمع إنما يبحر دوما ضد تيار جارف فما أسهل نقد (النظام) وما أعسر نقد (المنظومة). عوار ما إن هدأت صورة الثورة في مصر ورست أمواج التظاهرات (والتي ينتمي كثير منها في حقيقة الأمر الي ثقافة الزفة وفعل الهيصة أكثر من انتمائه لفكر التظاهر) أقول ما إن هدأت ووضعت الضوضاء أوزارها حتي تجلي لدي الراصدين والمتابعين مدي العوار الذي يكمن في كينونة البناء الاجتماعي المصري بشكل لا يتيح حتي فرصة الاختلاف حول وجوده من عدمه لكن وإن كان هناك ثمة خلاف فلسوف يكون فقط حول مقداره وحجمه ولأن الآراء والمناقشات قد انتقلت من صفحات الصحف وأروقة المؤتمرات والندوات فقد صار الصخب هو عنوان المرحلة وبطلها المتوج بإكليل من العامة والدهماء (رحم الله المفكر الكبير زكي نجيب محمود الذي قرأت عنه يوما أنه كان يرفض أن تنزل الفلسفة من عليائها الي الشارع) والسؤال يطرح نفسه: ما مظاهر ودلائل هذا العوار الذي يتحدث عنه كاتب هذه السطور؟ ان أول ملمح من ملامح هذا العوار الاجتماعي هو ذلك التناقض الفج في فكر وحديث من صاروا النخبة والنجوم وقادة الفكر والرأي في زمن الفضائيات فطالما صدعوا رءوسنا عن الإقصاء والتجاهل اللذين يعاملهم بهما النظام السابق وما إن تولوا هم زمام الأمور حتي كانوا هم اول من ينهج نهج الإقصاء ورفض الآخر رفضا مبرما يرغبون دوما في الاحتكام الي الشارع ليس لأن الشارع معهم لكن لأن صخب الشوارع يرضيهم وهتافات العامة تشبع رغبتهم في الإحساس بالسلطة - والتسلط - والنفوذ وهم يعلمون جيدا أن هناك آلافا وربما الملايين جالسين في بيوتهم ممن يطلق عليهم مسمي الأغلبية الصامتة تلك الأغلبية التي لا ترضي بما يحدث من فوضي وغوغائية ولاترضي عن تلك القوانين التي تسن بنفس طريقة سن القوانين في العهد السابق يفصلها ترزية لايختلفون في اخلاقياتهم عن ترزية النظام السابق ولكنهم فقط يختلفون في التوجه والايديولوجية هذه الأغلبية التي لا تنزل الي الشوارع والميادين لأن هذه الأماكن ليست مكانها الطبيعي ولكنها تجد نفسها وتدلي بآرائها في اللقاءات المنظمة وفي دوائر المناقشات المتحضرة الراقية حيث الصمت والاستماع وهو شئ لا يحبونه بل يكرهونه كراهية التحريم. الهدوء المكروه لا يريدون لهذا المجتمع المكلوم أن يهدأ لأنه وإن هدأ فلسوف يلتفت وأول ما سيلتفت اليه هو حاله الذي هاج وماج ولم يستقر حتي الآن علي مستقر له ملامح كنت مثل كثيرين أكن احتراما وتقديرا كبيرين لكثير من الأسماء والتي كنت أري فيها شجاعة وجرأة وإقداما ليست متوفرة لدي غيرهم وإذا بنفس هذه الأسماء ونفس الشخصيات التي كانت تحمل لواء الإصلاح هي نفسها الآن التي تحمل رايات الفوضي الخفاقة وتقاتل في سبيلها أشد ما يكون القتال. وكأن استقرار الأوضاع سوف يضيع عليهم فرصة نجومية (الكفاح) وإذا كان هذا مقبولا من بعض الشباب صغار السن فما بالنا بالبعض الذي تعدي عمرهم سن الشباب وعنفوانه الي مرحلة النضج هذا النضج الذي لا يبدو ولا يظهر أبدا في أحاديثهم ومداخلاتهم يوعدون ويخلفون كم صرخوا من الاستبداد بالرأي وهاهم الآن يمارسونه انتقدوا الاستئثار بالإعلام وهاهم الآن يحتلون مواقعهم الليلية كل يوم في برامج لاتبقي ولا تذر يبثون روح الفوضي والاضطراب حتي ان البعض بدأ يترحم علي (القناة الأولي) وأيامها الهادئة إننا الآن في مصر لا نعاني استبداد السلطة الحاكمة ولكننا نعاني جبروت الشارع وطغيانه وطاغوته يمارسون كل ليلة وبسادية عجيبة هجوما علي أجهزة الأمن - بما فيها جهاز المخابرات العامة - وكم كنت انا علي سبيل المثال اخاف ان يحدث لضابط الشرطة مثلما حدث لمدرس اللغة العربية من انهيار نتيجة السخرية والتطاول عليه وعلي مهنته والحط من شأنه حتي آل المآل للوضع الذي نعرفه جميعا وهاهم في غيهم سائرون وفي ساديتهم مستمرون وضد المجتمع المستقر يعملون ولا يهدأون. إنهم صناع الفوضي وأربابها، ويساعدهم علي ذلك روح المجتمع الغالبة التي تحب الانفلات من عقال القانون وقيود المدنية والحضارة الي رحاب البدائية والتي تتضح من رصد نوعية الجرائم التي بدأت تنتشر في مصر مؤخرا وأفعال الانتقام الشخصية البعيدة عن الإجراءات القانونية وما ذلك إلا نتيجة رواسب قديمة كامنة في بنية هذا المجتمع ساعد علي ظهورها هذه الفوضي المبثوثة يوميا من الفضائيات وأيضا الصحف الصاخبة بأقلام وألسنة أناس كانوا يوما ما مصنفين بأنهم ضد الطغيان فإذا هم سدنته يعضدون طغيانا آخر ألا وهو طغيان الشارع الذي لا يحده حد ولا يعرف إلا العشوائية في الفكر والفعل