بعد أقل من سنة ونصف السنة من ثورة 23 يوليو 1952، صدرت جريدة «الجمهورية» بترخيص باسم جمال عبدالناصر. ومنذ العدد الأول الذي صدر في 7 ديسمبر 1953 والجريدة في مقرها في 24 شارع جلال بالقاهرة محل صراع حاد يعكس صراع مجلس قيادة الثورة علي السلطة الذي كان يطيح بين حين وحين بعدد كبير من الكتاب والصحفيين، بالفصل أو النقل أو تقييد القلم، بشكل لم يحدث بهذه الدرجة في تاريخ الصحافة المصرية. لهذا لم يكن ما تعرض له صلاح عيسي في السبعينات الماضية علي يد رئيس التحرير محسن محمد، كما كتب في «القاهرة» في وداعه، سوي حلقة من حلقات هذا الصراع الحاد الذي أفضي إلي فصله واعتقاله، كما جري لأخي الفريد فرج قبل ذلك أكثر من عشر سنين، حين فصل مع ستين كاتبا آخر من هذه الجريدة التي كان يشرف فيها مع أحمد رشدي صالح علي صفحتها الأدبية، وهي صفحة نصف أسبوعية، كانت مثالا رفيعا للصحافة الثقافية علي المستوي الفكري والمهني، أثيرت فيها كثير من القضايا الوطنية والقومية والشعبية التي تخاطب الفرد والأمة، بالابداع الرفيع، والنقد الموضوعي، والتحقيقات المتنوعة، والدعوة إلي التجديد ورغم ضيق مساحة الصفحة، فقد كانت تنشر قصائد من شعر العامية تصلها بالبريد، ومن أهم ما نشرته قصيدة طويلة نابضة بالحياة، للشاعر السكندري كامل حسني، تتألق فيها اللغة العامية، ويتداخل فيها الحس الاجتماعي المرهف بالوعي بتاريخ مصرالمعاصر. وبتأثير رشدي صالح أبحر الفريد فرج في أحد قوارب الصيادين في أبي قير، وسجل من أفواههم مجموعة من أغانيهم العذبة المعبرة بلغتهم عن شجاعتهم في مواجهة أخطار البحر والريح والمجهول ونشرها في صفحة الأدب كنموذج للأدب الواقعي الذي يدعو أدب الفصحي إلي استلهامه. ولا يزال هذا القطاع البحري من كنوز الأدب الشعبي بكرا لم يفض، ولمن يريد اليوم أن يتعرف علي هذه الحرب الأهلية داخل هذه الجريدة عليه أن يعود إلي ما كتبه علي صفحاتها في الثقافة والسياسة طه حسين ولويس عوض ومحمد مندور وموسي صبري وإسماعيل مظهر وغيرهم. كان طه حسين بصفته أحد رؤساء تحرير «الجمهورية» يشكو من عدم رضائه عن كثير مما ينشر في هذه الجريدة التي يتحمل تبعاتها، ولا يعرف من خطتها إلا أنها تنشر سخفا وجهلا يضران بقرائها، وذلك تعليقا علي مقال لإبراهيم الورداني وصف فيه الأدب اليوناني بأنه أدب عفاريت والأدب العربي القديم بأنه أدب تقعر والأدب الغربي بأنه أدب استعمار وختمه بالقول إننا لسنا بحاجة إلي هذا كله! أما لويس عوض الذي كان يرفع منذ العدد الأول من الجريدة شعار «الأدب في سبيل الحياة» فقد كان يفاجأ وهو المشرف علي القسم الثقافي بنشر مقال واحد من مقالين عن عبدالرحمن الشرقاوي، طبع في الطبعة الأولي فقط من الجريدة، ثم رفع منها في الطبعات التالية، ومنع نشر المقال الثاني! ومن الذين تناوبوا علي رئاسة تحرير «الجمهورية» في هذه المرحلة موسي صبري الذي هاجم محمد مندور علي كتاباته التنويرية الرصينة التي ترد فيها أسماء أجنبية ومصطلحات فنية، بدعوي أنها فوق مستوي القراء، ولا تحتملها جريدة سيارة، بينما كان إسماعيل مظهر من كبار كتاب الجريدة يقف علي النقيض من هذا الرأي، معتبرا أن الكتابة السطحية تهبط بمستوي الجريدة، وتمثل خطوة للوراء، وتخريباً يهدد الحضارة في صميمها ويأخذ علي طه حسين تطويل افتتاحيات مقالاته لأكثر من النصف وعدم افصاحه مباشرة عما يريد. ولا شك أن مثل هذه العيوب في الكتابة التي يشير إليها إسماعيل مظهر مما يبعث الملل في القارئ. في هذا الميراث المثقل بالخلط والتضارب والانواء الذي كانت الجريدة تنعت فيه بأسوأ النعوت لم يكن متوقعاً للصفحة الأدبية التي يشرف عليها الفريد فرج ورشدي صالح أن تستمر غير سنوات قليلة جدا لا تتجاوز ثلاث سنين، انتهت في 1958 بفصل الفريد فرج من الجريدة وإلغاء صفحة الأدب، وسرعان ما اعتقل بعدها لمدة خمس سنين من 1959 إلي 1963، تنقل خلالها بين المعتقلات، دون أن يوجه له اتهام، أو تجري معه محاكمة أو تحقيق من أي نوع. ولولا صلابة عوده لأجهز هذا الاعتقال علي موهبته ككاتب كانت الحركة الثقافية تنتظر عطاءه في أكثر من حقل، وفي مقدمة هذه الحقول المسرح الذي تعلقت به أجيال من المثقفين، في مصر والوطن العربي. والدليل علي أن اعتقال الفريد فرج لم يكن يستند إلي قانون أنه حين تظلم إلي القضاء من وزارة الداخلية وثبت أنه لا ينتمي إلي التنظيمات الممنوعة، وجد النصفة وحكمت له المحكمة في 1987 بتعويض مالي قدره تسعة آلاف جنيه، وهو ثمن بخس وغبن جديد، لأنه لا يعوض يوما واحداً من فقد الحرية والتعذيب لا خمس سنين من أجمل سنوات العمر، أهدرت فيها كرامة الإنسان. غير أنه قبل هذا التعويض ولم يستشكل مكتفيا بالحكم كحجبة دامغة علي الظلم الذي نزل به ونزل بالمئات غيره، زج بهم في المعتقلات في عهد عبدالناصر، وهم يعظمون الثورة وأهداف الثورة! ولم يلتفت الفريد فرج إلي الأصوات التي اعتبرت التجاءه إلي القضاء انقلابا علي عبدالناصر الذي كان الفريد فرج يعلن تأييده لنظامه وثورته في الوحدة والاشتراكية والتحرر والنهضة، ولكنه لا يعني حمل المباخر علي طول الخط ولا يحول دون التضرر من فعل آثم ومتعسف تستهجنه كل المواثيق الإنسانية، ترتكبه أجهزة السلطة وكان الفريد فرج في كل مراحل حياته وفي كل إنتاجه يدافع عن الحق والعدل والحرية. وألفريد فرج كتاب من عشرة فصول عنوانه «ذكريات وراء القضبان» صدر في القاهرة عن دار رؤية في 2006 في السنة التالية لوفاته روي فيه وقائع هذه المحنة كان قد نشره خارج مصر في إحدي الدوريات اللبنانية المحدودة التوزيع في بلادنا حتي لا يستغله أعداء الناصرية في الحملة عليه والنيل منه. وقبل أن يفكر الفريد فرج في تأليف هذا الكتاب كتب إلي والده رسالة مطولة بمجرد علمه من اخوته بانزعاجه من هذا الفصل، يطمئنه فيها علي أن هذا الفصل خير له وفي صالحه لأنه سيتيح له التفرغ للتفكير والكتابة ذات القيمة التي كان يحرص عليها حرص الصانع علي اتقان صنعته ولا يجد الوقت الكافي لها بسبب عمله الصحفي الذي كان يرهقه ويعطله، مع تقديره للصحافة ورسالتها، ولذلك لم يكن غريبا أن يذكر الفريد فرج في رسالته أنه احتفل مع زوجته بهذا الفصل في أول مايو من تلك السنة 1958. والطريف أن أول مايو هو عيد العمال الذي قامت فيه ثورة العمال حفظا علي حقوقهم ضد أي عسف. والرسالة تحمل تاريخ 25 مايو 1958، وهي تكشف ثقة الكاتب بنفسه في هذه السن المبكرة، وتومئ إلي ثقافته العربية الحاضرة في كل أعماله، وأناقة لغته، وهذا نص الرسالة عن أصلها المخطوط. نبيل فرج 25 مايو 1958 والدي العزيز أكتب إليك خطابي هذا وأنا في تمام الصحة والراحة النفسية، لا يزعجني غير ما وصلني من الفونس عن انزعاجكم بسبب حادث الجمهورية الذي لا يمكنني بحال من الأحوال أن أنعته «بالمشئوم» فقد أراحني والله العظيم ثلاثة راحة عظمي. وقد كنت فكرت مائة مرة في أن أبدأهم بالاستقالة ولم يكن يثنيني عن ذلك إلا أنهم رفضوا استقالتي ثلاث مرات، وخدروا أعصابي بما يبقيني. وقد كان تمسكهم بي كتمسك التركي الغشيم الذي لا يهون عليه أن أخرج من عنده بمشيئتي، فيدبر لي في الخفاء ما يكيد لي به، ومع ذلك يتلذذ بابقائي أطول فترة ممكنة.. ومع ذلك فما هو بالقدير علي الكيد لي. لقد كادوا لأنفسهم المرة بعد المرة، وأقول لك الصدق كنت أنا أكثر اشفاقا علي الجمهورية منهم، فبينما كان معظم العارفين بفساد أمرها لا يبالون بها عاشت أو ماتت كنت حريصا دائما علي توجيه العمل بما يكفل انقاذ ما يمكن إنقاذه والمساعدة في صدق علي الاحتفاظ للجمهورية بأرقامها.. في الوقت الذي كانت الجهورية تعاني آلام المحتضرين، ويتدهور توزيعها من مائة ألف إلي 25 ألفا! ومع ذلك فلم أكن ألقي ما استحقه من راحة، كنت أعيش في غمة.. في وكر أفاع معتم، قد احتشدت فيه الجواسيس والجراثيم، وألوان الاستفزازات واللامبالاة وسوء الإدارة، والاختلاسات.. وترصد لها الضياع والكساد. ولم يكن يبقيني في هذا الجو الخانق غير حرص علي صيانة سياسة عبدالناصر الخارجية، وحرص علي ألا يقال إن جماعة كذا أو كذا قد اختلفوا مع الحكومة.. الخ. كان بقائي موقفا سياسيا، وقد وقفته علي حساب أعصابي، وعلي حساب دخلي أيضا، فقد كان يبقونني رغم اعتزامي الاستقالة أكثر من مرة كما كان يبقي كافورالمتنبي: جوعان يأكل من زادي ويحبسني.. فقد كنت في الجمهورية عاجزا تماما عن الكتابة في صحف أخري، وهم عاجزون تماما عن مجازاتي الجزاء الحسن لانهيار المؤسسة المالي، وفساد ميزانيتها وكل يوم يصدرون أمرا عجيبا.. فاليوم ممنوع السلف، وغدا خصم المكافآت المضافة علي المرتب، وبعد غد وقف العلاوات.. الخ. وكان الواحد منا يواجه موقفا شاذا، فالجريدة بلا مستقبل لا أمل في انتشالها، والمرء لا يستطيع أن يغرق مع السفينة عن طيب خاطر! وهكذا فلا تدهش إذا قلت لك إني احتفلت أنا وثريا في يوم أول مايو بمناسبة سعيدة هي فصلي من الجمهورية مع قائمة الستين فشربنا البيرة في حديقة الجبلاية بالأزبكية وكان الجو رائعا صافيا سعيدا، ولم يكن ينقصنا سوي مشاركتكم لنا. أما عن العمل فلم استقر بعد علي أمر قاطع ولكني خلال الشهر الحالي استجممت وتنزهت، وشممت الهواء بعد حرمان طويل وجلست إلي مكتبي فكتبت حوالي ست قصص قصيرة سأنشرها تباعا في صباح الخير وروزاليوسف والمساء وأظنها ستكفل لي ما يكفيني ويعوضني عن مرتب الجمهورية أو يزيد قليلا. وأمامي بعد ذلك عرض للاشتغال في مجلة المصور بنفس مرتب الجمهورية مع امكانية الكتابة في سائر مجلات دار الهلال بأجر إضافي طبعا.. ولكني لم أحزم أمري بعد. ولم أحزم أمري لأني استمرأت كتابة القصص، والتحرر من قيود الصحافة - ولو إلي حين - حيث إني بذلك استمتع بحرية مطلقة، ولا أخسر في الدخل.. ولأني أيضا انتظر نبأ من الزميل الكبير كامل الشناوي الذي رشحني لأصحاب الأهرام - علي شرط أن ينشئوا قسما للأدب والنقد الأدبي أتولاه وغير ذلك أمامي خلال اليومين المقبلين عرض بترجمة كتاب آخر نظير مبلغ يجزيني شهرين، وعقد لترجمة مسرحية للفرقة المصرية نظير مبلغ مماثل.. كما أن أمامي مسرحيتان إذا فرغت منهما استطيع أن أعيش بثمنهما - بالراحة - حوالي 8 شهور.. الخ.. الخ. فأنت تري يا والدي العزيز كم كانت الجمهورية تعطلني، وتشل قلمي وتبدد وقتي وجهدي، ولكني أحمد للجمهورية شيئا واحدا.. هو أنها لم تأخذني بلحا وتلقيني نوي، لقد دخلتها ولا سمي ثمن وخرجت منها واسمي لا يقل ثمنا إن لم يزد. كما أني بعد كل ذلك أمامي مكافأة وتعويض تعرضهما الجمهورية يبلغان في مجموعهما مرتب 9 شهور، ولكني لم اتسلمهما للآن لأني أطالبهم بزيادتهما إلي سنة، وعلي العموم سنسوي الأمر حسب الظروف. فأنت تري أنني لم اقع في مأزق يسوغ انزعاجك - مع شكري العميق وتقديري لهذا الانزعاج.. ولكنه انزعاج لا لزوم له.. وسأدبر أمري أنا طبعا بحكمة وروية.. أهم من كل ذلك أني أصبحت أكثر حرية في التنقل، وقد أزمعت زيارتكم يومين في نهاية الأسبوع الحالي أو الذي يليه، وسأتلفنكم قبل حضوري طبعا لأحدد لكم موعد السفر.. وأخيرا أتمني لكم من كل قلبي دوام الصحة والعافية والسلام.