هل نقول إن عالم السرد هو عالم السحر والأحلام؟ كتب الروائي البولندي جوزيف كونراد «1856- 1924» مقدمات لأعماله الروائية جمعت سنة 1937، فيما بعد، بعنوان «مقدمات كونراد لأعماله» واعتبر النقاد تلك المقدمات بمثابة البيان، أو «المنافستو» الأدبي لفلسفته ورؤيته الروائية، ومن بين ما رآه ما يشرح مهمة السرد والسارد، وكيف يغوص ذلك السارد في أعماق ذاته في منطقة موحشة، خائضاً غمار الغموض المحيط بنا والذي يكتنف حياتنا.. «التضامن في الأحلام وفي الفرح وفي الحزن وفي الأماني وفي الأوهام وفي الأمل وفي الخوف». ولهذا يري أن السرد أكثر الفنون هروبا وأكثرها تعرضا للغموض ولهذا أيضاً فإن حرية الخيال هي أغلي ما يعتز به السارد لأن ذلك الوحي الجاهز الذي يجعله ممتزجاً بالحلم «يزهو بالوهم الذي قد يجيء للكاتب أحياناً: الوهم بأن عمله يكاد يضاهي عظمة حلمه». ورأت «فرجينيا وولف» أن نكفل للكاتب الحرية في اختيار ما يكتبه، واتهم «د. ه. نلورانس» بالعلاقة الخاصة بين أنفسنا، والعالم الحي من حولنا مشيراً إلي ذلك البعد الرابع الذي لا نراه ضارباً المثل بقبعة نشتريها، فيحس صاحبها بإحساس قوي تجاهها، في علاقة حية يضعها علي رأسه ويخرج من المتجر وكأنه رجل آخر وحول رأسه هالة ذهبية، فذلك إذن حياة.. إن الرواية وسيلة مثالية للكشف عن قوس قزح المتغير لعلاقاتنا الحية» ولا يبعد ذلك كثيراً عما هو عند السرياليين من منطقة الحلم، أو أحلام اليقظة النابعة من كنوز الطاقة الكامنة في العقل الباطن، لجعل المستحيل ممكنا بتوظيف عنصر المفاجأة واستغلال طاقات اللاوعي واللاشعور المكبوت هروباً من قيود الحياة الواعية وتجنباً لهيمنة الفكر المنطقي وكأننا «واقعون في دائرة السحر»، ليتمكن المبدع من تقديم وجهة نظره، أو رؤيته الفكرية بطريقة تلقائية. وهكذا ومن دائرتي الحلم والسحر يولد الفن، بعامة و«ألوان الطيف» لمحمد قطب بخاصة الفضاء الحامل لحركة الطيف هو الحلم ولهذا تجد أن السرد لم يتأخر كثيراً في تلك المجموعة القصصية الجديدة الرائعة لمحمد قطب حين قالت بطلة «مشهد جانبي» لبطلها ص49: - كأني رأيتك من قبل.. فداعبها قائلا: - لا حظر علي الأحلام. أجل، لا حظر علي الأحلام، لأن الفن حلم والفنانون يحلمون ومع الأحلام تتعدد ألوان الطيف وأشكاله ودلالاته ورموزه في فضاءات التخييل Fiction بل سارع السرد إلي ذلك منذ الجملة الأولي فيه: «ما الذي أتي به فاقتحمني وسكن عقلي؟!» وفي التحليل المعني اللغوي «للطيف» ما يحدد حالتي توظيفه، وهما: حالة النوم وحالة الجنون وهما مقصد السرد معاً أما الأولي فقالوا: طيف الخيال مجيئه في النوم وطاف الخيال ألمّ في النوم بل قالوا: الطيف: الخيال نفسه. أما الثانية فقالوا: الطيف المسّ أو اللمم أو العرض أو الطائف من الشيطان وقالوا: أصل الطيف الجنون ثم استعمل في مس الشيطان. وفي التحليل الأسلوبي لمجري السرد بالمجموعة ما يصلنا بمنابعها العميقة، وهي الأحلام وعالم الجن، منذ البدء حتي الختام في مثل جمل السرد التالية: قبل يقظة الفجر- وأنا بين اليقظة والمنام.. رأيته - وغامت عيناها وتمتمت: حين صحوت لم أجده. من أين جاء؟ قالت واحدة تخفف عنها:- أكان لابد أن تحلمي؟ هي النار.. إن حملت بها.. حملت بها، ليكون الطيف حلما في شكل نار، ولتطفأ النار وهي غريزة الشهوة فيتم الحمل، الحمل الذي يتكرر حدوثه في قصتين هما: «النداء» «والقمر». ولهذا تتكرر كلمة الغفوة كثيراً: ينصتن كالغافيات - مدت يدها في غفوة- ظلت تبكي حتي راحت في غفوة، وكلمات مثل: «الغياب: غبت كثيراً وانتفضت حيث يبدأ السرد في «القمر»:.. انتفضت.. ما الذي جعلها تنتفض وتهب واقفة؟ وما يشابهها مثل: ترتجف، وارتجت. الحلم الممهد للطيف ويكون الحلم الطريق الممهد للطيف، بمثل ما يكون فضاؤه السابح فيه، بل يكون أساس السرد، والمسيطر عليه في المجموعة بمفاصلها الخمسة التي يغلب عليها عنواناتها صيغة الجمع: أطياف «ص5-44» وأصداء «ص 45- 78» وكهولة «ص79- 138» وارتعاشة «ص 139 - 156» وتمتمات «ص 157 -169» ثم عناوينها الفرعية لكل أقصوصة وهي بتنوعها تمثل ألوان الطيف وأشكاله وحالاته وتجلياته ومن ثم دلالته ورموزه وإيحاءاته بين: المشموم: رائحة ابنه هبّت فجأة. والمسموع: وبخاصة في: «النداء عنواناً ومضموناً، لأنه طيف صوتي ومجموعة «أصداء» التي يتبعها السمع. والمرئي: وهو الشائع الأعم وبخاصة: النور والغيم والقمر والشهاب.. إلخ.. كما نجد في ر موز: النار والطير والماء ودلالات اللون. وفي البداية نقف علي الركن الأساسي في السرد، وهو عنصر الشخصية لنجدها من أنثي وذكر وثالثهما الطيف وكأنه رمز الخصوبة وعامل حفظ النوع منذ خلق الله آدم، ومن هنا عجل السرد به منذ العنوان الأول من المجموعة، بل الجملة السردية الأولي «ص7»: ما الذي أتي به فاقتحمني وسكن عقلي؟! «كان طيف يعبر فضاء الغرفة العلوية مكان نومي، أغمضت عيني خوفاً وبلغ الفزع مداه حين لمحته يمد يده ويفتح النافذة ويمرق، تعوذت بالله من الشيطان الرجيم، ومن الأرواح الشريرة ومن سكان الأرض السابعة ووجدت الطيف قابعاً في الركن علي هيئة امرأة سافرة، تعرف أنني علي دراية بألاعيب السفليين.. مضيت وراءها خضت دروباً وأزقة وحواري.. وأنا أراها تمضي وفوق رأسها دخان أشهب كأنه غمامة تضيء.. راح الطيف يدر.. كان الطيف يشير إلي ويدعوني.. وكنت أخلع قدمي عن وجه الأرض، وأمضي وراءه إلي الخلاء» هذا موجز خطوات الطيف في القصة الأولي ومثلها الكثير في سائر قصص المجموعة، وهو هنا في شكل «الحركة» أما في أقصوصة «النداء» فهو في حالة «الصوت»: جاءني النداء فخرجت. جاءها النداء والفجر يطل علي الكون.. من يقوي علي الممانعة؟ كما يكون في حالة «الضوء» كما هو في قصة «القمر»3 ، الذي كان بدرا: «يباغتها ويرشها بزخات من ندي نوره فترتجف.. يود أن يأخذها إلي عرينه، ما الذي يفعله بها؟ ماذا تريد مني؟ ناوشها فاتقته باليد: ابعد يدك عني.. أيكون الجن خواها خلسة؟ صادها وضمدها للحور العين، وفي النهاية: «في الصباح لم يجدوها.. لاحظوا بقعة الدم «دليل العذرية» تزهو حمرتها فوق السطح.. والسلم تعرج درجاته إلي السماء «رمز السمو» فتختفي.. لا تبين». الواقعية وحيث كان الحلم فضاء الطيف السابح فيه، كانت الواقعية السحرية، حيث الجن وبنات الجنة والحور العين والشيطان الرجيم والرقية والسحر والسفليين والنذور واختفاء الأشياء بعد ظهورها والخلطة السحرية. وناسب ذلك كله أن كانت اللغة نسيجاً من: المجاز والشاعرية: سحبت عيني- يجوس بإصبعه- سال من عينها- كانت غيمة من الضوء الأشهب تطل عليها. والتشبيه: كأنه غمامة تضيء. ومن رمزية: النار منذ كانت عنواناً: النار كشفتكن- هي النار إن حلمت بها حلمت بك، ورمزا للغريزة: جذوة ملتهبة. ورمزية: الطائر - طار كالعصفور- حولها طيور رمادية. أخذت الشمس إلي خدرها غناء مختلطاً لعصافير وحمامات ودلالات اللون الذي يسود فيه اللون الأبيض بصوفيته: أشهب- شهاب- الغيم الوضيء والشال الأبيض- شف جسمها وأضاء - الضوء- والطيف. وتكرار الغيمة كضوء الغيوم. بينما يقل ورود اللون الأخضر في العشب، أو باللفظ الصريح والتناصية اللفظية في المفردة الصوفية في الخطاب السائد والنسق المسيطر: كالورد- الخلاء «كالخلوة» - الرداء» وعبارات: تتغشاه- غشية- تفيض - ستر النفس. وهذا المناخ الصوفي ناسبه توظيف تراسل الحواس والمدركات: سحبت عيني- سمعت صوتاً ساخنا- سرحت الشهقة. وتوظيف القرآن الكريم: يجوس بإصبعه «.. فجاسوا خلال الديار.. -5، الإسراء». جذوة ملتهبة «.. أو جذوة من النار.. - 29، القصص». تعرج «.. تعرج الملائكة.. - 4، المعارج» والمادة شائعة بكثرة في القرآن الكريم. يخلع رداءه «فاخلع نعليك.. - 12، طه». اخلع نعلك «كالمثال السابق». تصور أنه الحشر«.. لأول الحشر.. - 2، الحشر»، والمادة شائعة بكثرة في القرآن الكريم. صكت سمعه «فصكت وجهها.. - 29، الذاريات». وتوظيف الشعر القديم: «ناوشها فاتقته باليد». مستوحياً الشاعر القديم، النابغة الذبياني: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد وتوظيف إيقاع البديع: إن حلمت بها حملت بها. وصيغة المفاعلة الدالة علي تبادل الخطاب والتفاعل بين طرفين: يتباسم. ويتحول الفصل الأخير المعنون «تمتمات» إلي شعر، أو ما يشبه الشعر، يتساوق ذلك مع الميل إلي التكثيف السائد في المجموعة حتي لتتكون القصة من سطور لا تكاد تملأ الصفحة الواحدة، أو تتجاوزها قليلاً مع تكثيف العبارة وقصرها والاقتصاد في بنائها لا يغادر ذلك الإيجاز والتكثيف إلي إطالة نسبية إلا قليلاً.