النيات الحسنة في السينما لا تكفي دائما لإنقاذ فيلم ما .. ما لم تتوافر إلي جانب هذه النيات عناصر فنية متكاملة تتمكن من الوقوف في الواجهة، تاركة هذه «النيات الحسنة» تختفي وراء ستار شفاف من الموهبة والذكاء والتمكن من التعبير الملائم. «ركلام» يتكلم عن الأسباب الاجتماعية والنفسية والاقتصادية التي تدفع أربع فتيات في عمر الزهور.. إلي احتراف الدعارة وبيع أجسادهن في سوق النخاسة. «العاهرة» في السينما .. كانت دائما من المواضيع المثيرة لاهتمام الكتاب والمخرجين ومن قبلهم الكتِّاب الذين اعطوا لهذه المهنة أحيانا ألقابا واسبغوا عليها صفات ترفعها من الحضيض الذي تعيش فيه إلي مستوي يقرب من مستوي القداسة أحيانا.. كما في «غادة الكاميليا» مثلا.. التي توجت شخصية بنت الهوي بهالة من التضحية والحب والوفاء لم تحظ بها أية بطلة أخري .. بل ويكاد هذا السحر الخاص الذي يطلق عليه لويس لونيل «سحر الشر الذي لا يقاوم» أن يجتذب إليه كبار الممثلات اللاتي يتسابقن لأداء هذا الدور الصعب والمعقد كل علي طريقتها. . وبأسلوبها الخاص بها ويجدر بالذكر مثلا أن مرجريت جوتييه بطلة غادة الكاميليا قد جسدت في المسرح المصري من خلال كبار بطلات شهيرات بدءاً من روزاليوسف ووصولا إلي فاطمة رشدي، أما في السينما فقد تسابقت كل من ليلي مراد ونجلاء فتحي ونادية لطفي ومريم فخر الدين في أداء هذا الدور دون أن يعبأن بالهالة اللاأخلاقية التي تحيط برأس الشخصية. حلبة السباق غادة عبدالرازق أرادت أن تدلو بدلوهها هي أيضا في هذا المضمار.. ولكنها لم تشأ أن تكون وحدها في حلبة السباق .. بل جاءت بزميلات ثلاث ليصاحبنها رحلة الجحيم الطويل.. هذه القصة تبدأ بدورية آداب تلقي القبض علي أربع عاهرات متلبسات بالجرم المشهود في فيلا أنيقة لرجل أعمال كبير ويذهب الفيلم بنا وبهن إلي رحلة استرجاعية «فلاش باك» لكل منهن لكي تعرف الأسباب التي أدت إلي سقوطهن وإلي وصولهن إلي نهاية هذا الطريق الشائك المليء بالمآسي والدموع. ويحسب لغادة عبدالرازق أنها لم تعط الأولوية لدورها وإنما تقاسمته تقريبا بالتساوي مع زميلاتها وإن كانت قد اختصت رحلتها الخاصة بالكثير من الأحداث المثيرة والقريبة من الميلودراما إذ تبدأ حكايتها وهي تعيش مع أمها وزوج أمها الذي يتأفف من وجودها ومن الصرف عليها.. مما يدفعها إلي السفر للعمل في القاهرة عند خالتها التي تقيم هناك، وفي دار خالتها تتعرض لإغراء وشهوات زوج الخالة الذي يحاول اغتصابها ولكنها ترفض ذلك بإباء وشمم فيتهمها أمام الخالة بأنها هي التي ارادت اغواءه! مما يتسبب في طردها .. واضطرارها للعودة إلي بيت أمها وقبول الزوج الذي اختاره زوج أمها وهو تاجر حشيش مزواج يضعها مع حريمه وتنجب منه ولدا، ولكن سرعان ما يقبض عليه وسرعان ما تجد نفسها مرة أخري في الشارع .. وقد أنكرها الجميع مما يضطرها شيئا فشيئا إلي احتراف الرذيلة وتعاني شادية «وهذا اسمها في الفيلم» الويلات من اغتصاب جماعي إلي ضرب وإهانة وتشرد قبل أن تجد طريقها إلي «الكباريه» حيث تتعرف علي باقي الفتيات اللاتي سيشاركنها مصيرها المشئوم .. تحت رعاية قوادة محترفة تبتزهن وتأخذ منهن ثلاثة أرباع ما يكسبنه من الزبائن مما يدفع شادية وزميلاتها إلي الثورة عليها وقرار العمل لوحدهن ولكن القوادة المتمكنة تثأر منهن علي طريقتها وتبلغ بوليس الآداب بالسهرة المشئومة التي ستقودهن بعد ذلك إلي السجن. ولا تختلف قصص الفتيات الثلاث اللاتي شاركن شادية في عملها الفاسد عن قصتها، فالأحداث كلها تصب في نهر واحد هو قسوة الأهل والرجال والزوج.. والمعاملة السيئة والعوز المادي واغراءات المجتمع الاستهلاكي .. وضعف النفوس. احتراف الدعارة هناك مثلا الوارثة الثرية التي يفلس أبوها فيتركها خطيبها الثري وتدفعها أمها إلي احتراف الدعارة الراقية مما ينتهي الأمر بها هي أيضا إلي الوقوع في شرك العدالة وهناك المؤلفة الساذجة التي تقع في براثن صديقتها اللعوب التي تجرها رويدا رويدا إلي عالم الأضواء.. والتي تبيع عذريتها قبل زواجها بأيام إلي أحد كبار رجال المال ويكتشف خطيبها الذي يعمل لديه الحقيقة المروعة .. عندما يفاجئها في فراش الرجل وأمامها كومة النقود التي تركها لها الرجل. مشاهد ميلودرامية بامتياز عرف كيف يختارها ويؤجج أحداثها ويصعد مواقفها «مصطفي السبكي» كاتب القصة والسيناريو. أعرف أن طبيعة جو الدعارة يدفع دفعا إلي المواقف الميلودرامية ولكن هناك دائما هذا العنصر الإنساني المليء بالشجن الذي يمكن أن يعطي هذه الأحداث بعداً آخر ويقرب هذه الشخصيات النافرة إلي قلب المتفرج .. وهذا ما فات تماما علي المؤلف الذي ركز علي الخلفيات الاجتماعية ومظاهر الدين المزيف والمجتمع الذكوري الظالم .. وعدم قدرة المرأة الشرقية علي المقاومة والوقوف في وجه هذه التيارات الصعبة التي تتجاذبها. استعمل المؤلف والمخرج من بعده تيمة القطار وحركته الدائبة ذهابا وإيابا وقضبانه الحديدية ومركباته المتنقلة ليقول من خلالها أو يوحي بكثير من الرموز التي ساعدت علي اعطاء الفيلم ابعادا سينمائية مبتكرة. كما لا يمكن تجاهل رؤية علي رجب المكانية لمدينة الإسكندرية .. التي يعرف أكثر من غيره خصائص متميزة لها أعطت فيلمه وبعض أحداثه مذاقا سينمائيا سلسا وفيه الكثير من الإثارة. تشكيلات سينمائية كما أنه قد سعي جاهدا لاعطاء «صوره» و«تشكيلاته» السينمائية جوا وبعدا كانا بعيدين عنه تماما في أفلامه السابقة ولكن في نهاية الأمر كان يدرك جيدا أنه أمام فيلم تقوم أحداثه كلها علي الميلودراما وعلي العواطف الهائجة لذلك ترك العنان لأحداث الفيلم تتشابك وتتصاعد بوتيرة حادة مهتما كل الاهتمام بطابعها الظاهري المؤثر والمستدر للعواطف وغير عابيء بالأحاسيس الداخلية الكثيرة والمتدفقة التي يمكن أن تبرر سلوك بطلاته وتصرفاتهن وردود أفعالهن . الأحداث كلها خارجية والتعبير عنها جاء أيضا خارجيا وبقيت «نفوس» هانة الصبايا غامضة مجهولة كصندوق مغلق.. وهذا ما أثر تماما علي أداء الممثلات الأربع، خصوصا أن بعضا منهن وخصوصا البطلة الأولي قد تجاوزت في سنها السن المفترضة للشخصية التي تمثلها .. فبدت لنا منذ ظهورها الأول امرأة ناضجة تحمل مكايدها خبرة السنين وليست هذه الفتاة الصغيرة التي تواجه ظلم مجتمع وقسوة أسرة ولامبالاة مدينة. ولا يعيب الفيلم أنه ركز كثيرا علي مشاهد علب الليل وغرز الحشيش والجو الجنسي العام للأحداث.. لأن طبيعة الفيلم نفسه ترتكز رئيسيا علي ذلك.. وإنما يحسب له أيضا أنه رغم توقفه كثيرا حول هذه الأماكن وشخوصها لم يسقط في ابتذال كان من الممكن كثيرا أن يغرق فيه حتي أذنيه. كما وفق علي رجب في اختيار شخصياته الذكورية التي جاءت ملائمة تماما للأحداث .. رغم كون معظمها قد أعطي لوجوه جديدة أشير بالذات إلي أخوة إحدي الفتيات الثلاث وأمها الفقيرة وأخوها القاسي المتدين الذي لا يكف عن ضربها .. والأخ المتدين الذي يحس بإمكانية انزلاقها دون أن يحاول مساعدتها. شخصيات ذكورية أخري مرت مرورا هامشيا في ثنايا الفيلم ولكنها بدت لي أكثر واقعية وأكثر إنسانية من بطلاتها الأربع الذي اكتفي المخرج بتصويرهن من الخارج مع أنه في مطلع التترات ركز علي عملية «الماكياج» التي تغير من معالم الوجه الحقيقي لتستبدله بوجه مرسوم .. مما يوحي إلينا بأننا سنري تحليلا شديد الخصوصية لهاته النساء اللاتي يضعهن المجتمع علي هامشه وينهش في أجسادهن ويزيف روحهن.. دون أن يمنحهن حقهن الإنساني الحقيقي.. ووجههن الصافي الذي شوهته رغبات الغير وشهواتهن. «ركلام» فيلم طموح له جسد طائر جميل ولكن تنقصه الأجنحة كي يطير بنا إلي السماء التي كنا نحلم بأن نطير إليها معه.