ازمة صناعة ام ازمة مبدعين ؟،هذا السؤال الأهم الذي يجب أن نفكر فيه الآن قبل أن نخوض في أسباب أخرى لما تشهده صناعة السينما من تدهور في الشكل والمضمون. في السنوات الأخيرة سيطرت بعض الأنواع الفيلمية علي سوق صناعة السينما في مصر،وما جعل انتشارها اسرع واوسع هو تقبل الجمهور لهذه النوعية رغم هجوم النقاد المتواصل علي صناعها الذي حول البعض منهم مفهوم الكوميديا الي ابتكار الفاظ وافيهات مبتذلة ترددها الشخصيات، أو استغلال حركات الممثل الجسدية بأسلوب أشبه ما يكون بالحيوان الذي يتلوي لاضحاك الجمهور. تتعدد أسباب تدهور صناعة السينما وتراجع الانتاج،والتي في أغلب الأحيان يرجعها البعض الي تدهور الوضع العام في مصر،علي الرغم من أن ثراء الوضع العام من أحداث متعاقبه يمنح المبدع الحقيقي زخم كبير في استلهام أفكار جديدة واطلاق اسئله عديدة وتحفيز طاقته لانتاج شيء مغاير لخياله الذي حبسه في قالب واحد قبل الثورة. وإن لم يعترف صناع السينما في مصر أن أحد أهم أسباب الأزمة التي تعاني منها الصناعة هي تراجع مستوي الابداع الفني عند صناع السينما وخصوصاً كتاب السيناريو، فيشهد علي هذا أن معظم الاعمال التي أنتجت خلال العشر سنوات الماضية،كان السيناريو هو الركن الأضعف فيها،حتي وأن برع الممثلين في أداء أدوارهم أو أضاف المخرج لمساته السحرية ليحاول أنقاذ الفيلم، الا أن السيناريو يبقي هو العمود الفقري للعمل والذي ترتكز عليه باقي أدوات الفيلم. تأكد لدي هذا الظن بعد مشاهدة الاعمال التي عرضت في أخر العام الماضي وفي بداية العام الحالي، كان أخرها فيلم ركلام، فكرة لكاتب لم يتمكن من صياغتها في سيناريو محكم البناء، فالقصة كانت غنية بتفاصل كثيرة اضاعها عناد الكاتب ربما في الاستعانة بسيناريست محترف يطور الفكرة ويبني لها أحداث رئيسية تنهي حالة الارتباك الذي وضعنا فيها السيناريو الذي كتبه مصطفي السبكي وورط المخرج علي رجب في عملية المونتاج التي قضت علي الفيلم هي الأخري بشكل تام. خرج السيناريو عن الفكرة الي تفرعات لم يربطها بصراع شخصيات الفيلم مع أنفسهم ومع المجتمع المحيط بهن، بما أن معظم شخصيات الفيلم نساء يعملن باغيات، ينتابك احساس منذ البداية أنك علي موعد مع عمل من أعمال الستينات، يدخلنا المشهد الأول عالم البغاء ولكن مع الاحتفاظ بحداثة الزمان والمكان،وقد يفقد المشاهد بعد عشر دقائق من الفيلم حماسه للمتابعة،الأحداث التي تخلو من عنصر التشويق مسطحة لا تتصاعد بقدر ما يتصاعد أداء الممثلات الثلاثة” غادة عبد الرازق في شخصية شادية، ورانيا يوسف في شخصية دولت و دعاء سيف الدين في شخصية شكرية، والتي وجب أن نتوقف عند هذه الفنانة الصاعدة،التي قدمت أداء المحترفين في أول أعمالها السينمائية، وهي الشخصية الوحيدة بين شخصيات النساء الأربعة التي تصاعد أدائها ،فهي في البداية أخت ملتزمة لثلاثة رجال مختلفي الاتجاهات، الأول الذي يضربها دوماً مدمن للمخدرات، والثاني شخصية سلبية لا تقوي علي مواجهة الأخ الأكبر، والثالث لبس رداء الدين،فلم تجد الأخت التي أجبرها أخوها علي الزواج من شخص مريض جنسياً الا أن تهرب مع حبيبها الذي يعمل في ملهي ليلي كي يدفعها بعد ذلك للعمل كراقصة حتي يستنزف أموالها ويقوم في النهاية بسرقتها ويهرب خارج البلد، ثم نراها تتحول الي إحدي فتيات الليل الأربعة (بطلات الفيلم)، دون مبرر لأسباب هذا التحول من الرقص التي أجادته لعدة أشهر الي العمل كغانية في ملهي أخر،وسيظل المشاهد يخمن هل هي بالفعل راقصه ، أم أنها ممثلة تجيد الرقص، أم أنها فنانة جديدة يجب الانتباه لموهبتها، ذاب أدائها التمثيلي في أدائها الراقص،ويستحيل علي المشاهد أن يدرك قبل منتصف الفيلم حيث تقدم رقصتها في الملهي أنها بالفعل تعمل راقصة ولكن لديها مواهب تمثيلية كبيرة. ولا يختلفن الأخريات عن شكرية ، فلكل منهن سبب تعمد السيناريو أن يؤكد عليه طوال الفيلم، رغم تقارب طبقات كل منهن عدا واحدة، وهي سوزي إبنة لأحد الأثرياء الذي أصابه الافلاس فجأة، فيما لجأت الزوجة والأم الي أختها التي تعمل في الدعارة للعمل معها وابنتها حتي تبقي علي ثراء حياتها،شخصية الأم (مادلين طبر) التي تدفع بابنتها الي الزواج عرفياً من أحد رجل اعمال يكبرها بسنوات عديدة ،والذي يتخلي عنها بعدما يتمتع بها لأيام، علي النقيض من شخصية “شادية” غادة عبد الرازق التي تفقد أبنتها دون السنتين فجأة وبدون أن نعرف لموتها سبب، وتنصرف شادية بعدها للاعتكاف والصلاة وقرائه القرأن،في مشهد يحسب للفنانة غادة عبد الرازق التي أدت معظم مشاهد الفيلم بدون ماكياج،فيما تبدأ شادية تقنعنا بتوبتها التامة عن هذا العمل، يصدمنا الفيلم بعودتها دون مقدمات الي الدعارة وكانها كانت تمثل الحزن علي نفسها. وما أكثر مفاجأت الفيلم وصدماته المتتالية، هو نقل مشهد كامل من فيلم عربي قديم،لم نعود الي افلام الستينات التي كانت تفضح كراسي السلطة داخل أسرة العاهرات فحسب، الفيلم أقتبس مشهداً كاملاً من فيلم غروب وشروق، بل المشهد الأهم او كما نسمية بلغة السينما ” ماستر سين”، والاقتباس في السينما مشروع لكن الابتذال في الاقتباس في أن ينحدر الأداء الي هذا الحد مما يجعل المقارنة بين الأصل والصورة أكثر ابتذالاً. حاول المخرج علي رجب في نقل تفاصيل مشهد خيانة “سعاد حسني” لزوجها ” ابراهيم خان” بنفس المفردات وزوايا التصوير والحركة البطيئة لاكتشاف الزوج أو الخطيب المخدوع أن من ترقد علي هذا السرير هي زوجته، لم يكن أعادة صياغة تفاصيل المشهد الأصلي بهذا التطابق هي فقط التي أخلت بقيمة المشهد في ركلام ولكن أداء شخصية الخطيب وتعابير وجهه المبالغ فيها والتي لم يرتقي بها الي مكانة الأداء المحترف الذي يليق بسرقة أهم مشاهد السينما المصرية ،وما أنقذ ما يمكن أنقاذة في هذا المشهد حرفية أداء الفنانة رانيا يوسف، التي حاولت الارتفاع بأدائها الي أولي مراتب النجومية الحقيقية أو ربما كانت تحاول الحفاظ علي قيمة المشهد الأصلي بعد التحريف الفني له. “الفقر والعنف ضد المرأه والتطلع الي الثراء ومصادقة أهل السوء،أسباب قد تدفع العديد من الفتيات والسيدات الي الانحراف الأخلاقي والعمل في مهن قد يجبرن مكرهات عليها، ولكنهن لا يقوين علي التخلص منها لعدم وجود بديل لها حسب وجهة نظرهن، هذه هي الفكرة التي كان يود السيناريو المفكك قولها، ،حيث غفل أن يضيف علي عمل فني يناقش نتيجة هامة لانتشار الفقر في المجتمع وهي ارتفاع نسبة النساء الاتي يعملن في الدعارة، الفارق الزمني بين مجتمع الستينات، وبين مجتمع الألفية الجديدة، الفارق ليس فقط في التقدم وتغيير بنيه البشر ولكن في تغيير مفهوم تناول الأفكار،فعالم البغاء الذي قدمه محفوظ في سينما الستينات لم يكن سوي قشرة لما هو مستتر خلفه من عوالم أخري أكثر بغاء،دعارة سياسية واجتماعية وثقافية ودينية، أما في الالفيه الجديدة توقفت الأفكار عند حدود تنصل كل طرف من مسئوليته حول ما وصل اليه المجتمع،نساء بائسات في مواجهة قدرهن، والمجتمع يدير ظهره ويستكمل ذبحه لهن، يعتبرن أنفسهن ضحايا الظلم والفقر، والمجتمع يعتبرهن مذنبات يجب أقصائهن.