شهدت الأيام المنصرمة جدلاً كبيراً وصخباً أكبر حول ما سمي بوجود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتي باشرت عملها من خلال طريقين، الأول عبر الطاقة الإليكترونية المستباحة المسماة بالفيس بوك حيث شيد بعض المنتمين للجماعات السلفية الضاربة بطول وعرض جسد مصر صفحة إليكترونية تعلن عن وجود هيئة مصرية تتزعم مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والثاني من خلال البدء التنفيذي لعمل الجماعة وذلك حينما قام مجموعة من الشباب بالمرور علي محال الحلاقة للتنبيه عليهم بمنع خلاقة الذقون للمسلمين طبعاً أما الأقباط فينتظرهم مصيراً آخر غير ذلك علي أيدي هؤلاء، وكذلك الترويج غير الآمن لضرورة ارتداء المرأة للنقاب لاسيما في صعيد مصر. بين الفضيلة والقمع وحقيقة الأمر التي لا يستطيع منكر أن يغفلها أننا جميعاً نرغب في الفضيلة بل ونحرص عليها وكل مسلم في قراراته هو مكلف بإتيان المعروف والنهي عن المنكرات التي حرمها الإسلام الحنيف من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة . أما وجود هيئة مكلفة من قبل جماعات دينية مجهولة النسب تحمل عبء القيام بإلزام المسلمين في مصر بأمور وسلوكيات نوعية وفئوية فهو أمر يتصل بالحجر والمنع والقمع الذي يمارس قهراً وقسراً ضد العقل وربما ضد أحكام الدين نفسه. والعجيب في وجود هذه الهيئة أنها ادعت نسبها للتيار السلفي المصري، بينما قام حزب النور أحد الأحزاب الدينية التي تسيدت المشهد السياسي الراهن بتكذيب هذا النسب غير الشرعي، وأن هذا الانتساب هو قنبلة موقوتة ألقاها فلول الحزب الوطني المنحل والبائد لتشويه صورة الحزب الديني .كما أن جماعة الإخوان المسلمين « المحظورة سابقاً » نفت أي صلات بهذا الكيان الجديد. وقبل الدخول في تفصيل وتأويل وجود هذه الهيئة تجدر الإشارة إلي رفض رجال الدين لها رفضاً قاطعا دون نقض أو استئناف، ففضيلة الإمام الدكتور نصر فريد واصل مفتي الديار المصرية الأسبق أعلن رفضه لما سمي بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الأزهر الشريف هو الجهة الرسمية المؤسسية لمثل هذه الأمور الدعوية، وأن مجرد فكرة إنشاء هيئات مماثلة تعد خروجاً علي شرعية الأزهر وكذلك دور الدولة التشريعي والتنفيذي والقضائي أيضاً. ووجود هيئة في مصر تدعي أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر لهو بدعة منكرة في حقيقة الأمر، فمثلاً لم نقرأ شيئاً واحداً يفيد وجود مثل هذه الجماعات أيام عهد النبي صلي الله عليه وسلم فلم نجد مجموعة من الصحابة مثلاً يحملون المسلمين علي العبادة والالتزام بأحكام وأوامر الشرع، وقد يفاجئنا مدع منهم بأن المناخ وقتها كان صالحاً فلم يلزم وجود هذا العمل البدعي آنذاك، لكن لأنهم لا يقرأون شيئاً من صفحات التاريخ الإسلامي فلم يعلموا أن في فترة الرسول ظهرت حركات أقوي من البدع أهمها ادعاء النبوة ووجود الكفار واليهود وغير ذلك وهذا أدعي لوجود جماعات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. بلد يحترف فوضي ولأن مصر أصبحت منذ ثورتها الشعبية بلداً يحترف الفوضي ظهرت هذه الهيئة وغيرها من الهيئات والمنظمات العجيبة في مصر، وكنت أفضل أن يقوم أعضاء هذه الهيئة بالتعريف عن أنفسهم ولو إليكترونياً، مؤهلاتهم، قراءاتهم الدينية معرفتهم بأسباب نزول القرآن وآياته، وأحكام الناسخ والمنسوخ، وفقه الحالة وفقه المقام المستدام، وكيفية تمييز الحديث الصحيح من الحسن من الضعيف، وغير ذلك من الأمور الفقهية والدينية التي تجدر لشخص يتحدث في الدين، لأنه متين بالفعل لذلك أمرنا الرسول بالتوغل فيه برفق، يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم : "إن هذا الدين متين، فأوغل فيه برفق، ولا تبغض إلي نفسك عبادة الله، فإن المنبّت لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقي"، وهذا حديث مرسل رواه الإمام أحمد، وأخرجه البيهقي والبزار وضعفه الألباني دون الشق الأول منه، ولا أظن أن هؤلاء يفطنون لكلمة حديث مرسل أو يعرفون شيئاً عن مصطلح تخريج الحديث. وقيام مجموعة بحمل الناس علي التقوي من وجهة نظرهم فقط بالقوة والردع فيه إهانة بالغة لكتاب الله تعالي وسنة نبيه المصطفي صلي الله عليه وسلم أولاً لأن القرآن الكريم أمرنا بالحكمة والموعظة الحسنة وكذلك سنة النبي التي نهت عن كل إلزام وقهر، ثانياً لأنه من المضحك ألا يلتفت مسلم لما جاء في القرآن الكريم من أحكام ومبادئ وتشريعات رادعة وبعد ذلك يعير اهتمامه لفئة تحثه علي القيام بتلك الأحكام عن طريق القوة والعنف ومنطق افعل ولا تفعل. فهل كان القرآن عاجزاً عن هذه المهمة حتي يقومون هم بها؟ ويا لفداحة الأمر لو أن الناس قاموا بفعل ما تأمرهم الهيئة بذلك خوفاً وخشية من بطشهم، ولم يفعلوه خوفاً من الله، وكفي بالله علماً أن يخشي المرء ربه، ولكن لأن كل جديد يأتي إلي مصر حصرياً يكون منبته فقهاء أهل النفط ومريدي محمد بن عبدالوهاب، وإصرار الفقهاء والمريدين علي أن بمصر كل البدع الشركية المنكرة لهو أمر يدعو للحزن علي هؤلاء جميعاً، لأن مصر علمت الدنيا كلها مبادئ الشريعة الإسلامية بفضل الأزهر الشريف، وكانت علي كل الدول النفطية المصدرة للهوس لبقية جيرانها علماً وطاقة ضوء ومصباحاً ينير ظلماتهم من الدجل والبدع والشعوذة. وكنت أفضل لو أن هيئة الأمر بالمعروف تلك تبدأ عملها التنفيذي المخطط ظهوره وقت الانفلات الذي تعاني منه البلاد حالياً أن تبدأ بالكلمة الأولي من اسمها المعروف، فكنت أحسب أن هؤلاء يحدثوننا أولاً عن الفضائل وأهمية عمل الخيرات ودور الكلمة الطيبة علي الفرد وأثرها علي المجتمع، وأهمية اتحاد الشعب الآن للنهوض بأمته، لكن يبدو أن البعض لايزال حائراً في فكره وأسيراً لمنطق بات عقيماً، ولم يعد يفرق بين التاريخي والزمني فوجد نفسه في أزمة وهي كيف يعيش وسط أناس يرفضون وجوده ويمقتون تصرفه. وبلد مثل مصر اعتادت علي وجود مرجعية دينية واحدة وهي الأزهر الشريف الذي بالتأكيد يعاني قصوراً شديداً في القيام بمهامه وأدواره الدعوية، بدليل خروج جماعات مثل هذه الهيئة وغيرها للقيام بدور المرجعية، فعلي الأزهر الشريف أن يراجع تاريخه المشرف حتي يدرك كم كان له مواقف مضيئة في تنوير هذه الأمة والشعوب العربية أيضاً علي السواء . ولاشك أنني اغتبطت فرحاً عندما علمت بصدور قرار بتعيين الدكتور أحمد الطيب شيخاً للأزهر الشريف ؛ كانت تلك الغبطة نتيجة معرفة سابقة بتاريخ هذا الرجل التي يمكن وصفها بعبارة " مسيرة كفاح " والعاملون بالأزهر الشريف ومؤسساته التي تحتاج إلي تغيير شامل وليس تعديلاً يعرفون السيرة العلمية والدينية لشيخهم الجديد مما يجعلهم وغيرهم من المهتمين بالعمل الديني في شوق مستدام ورغبة حقيقية في تطوير عمل المؤسسات الدينية. ولعلي أدرك يقيناً أن فضيلة الإمام الأكبر الجديد شيخ الأزهر يعلم مأساة الخطاب الديني المعاصر، ويفطن للتحديات التي مازالت تواجه الإسلام ديانة ومعتنقين. وأظن أن فرقاً كبيراً بين توليه منصب الإفتاء، ومنصب رئيس لجامعة نوعية، وبين توليه رئاسة أكبر مؤسسة دينية في العالمين العربي والإسلامي. وكم سأكون سعيداً وفرحاً عندما أعلم أن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب سيدرك سريعاً وهذا ظني الحسن به وبمقامه الرفيع أن مشكلة الخطاب الديني لا تتمثل في الكتب الدينية والمصادر المعرفية التي يستقي منها الخطباء والأئمة معارفهم، بل تتمثل فيهم أنفسهم، فلا تزال عقدة الثقة هي المحك الرئيس لاختيار الإمام والخطيب بل والمعلم الأزهري أيضاً، وسط تجاهل مستمر ومعلن لمعايير أخري كالكفاءة والخبرة المستدامة غير المنقطعة في الدراسة وحضور المؤتمرات والندوات. وأقولها صادقاً لفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر بأنك مقدم علي معارك ضارية لابد من حسمها سريعا، أبرزها الخطاب الديني الذي تردي، ومنها صورة الإسلام في الإعلام الغربي، الذي بات يصور ويجسد المسلم في المقالات والدراسات العلمية وحتي في الأفلام السنيمائية علي أنه بدوي جاهل مسعور، وأخيراً هذه الفرق والهيئات التي تجتاج عقل مصر تريد تطويقه وتقويضه. وإذا كانت هناك سياسات مخططة ومشبوهة لتشويه صورة وحقيقة الإسلام، بالإضافة إلي وجود منظمات تستهدف تقويض مقدرات مصر، وتمزيق الوحدة الوطنية والنسيج الواحد بين أبناء هذا الوطن مسلمين وأقباط، فعلي المؤسسة الدينية الرسمية أن تعي وتفطن وتدرك تلك المساعي المحمومة فتتصدي لها بأساليب معاصرة كالحوار والحجة والعمل التعاوني المشترك. حرب ضد الحرية وبالإضافة إلي مهمة هيئة الأمر بالمعروف في نسختها المصرية والتي اقتصرت علي تهديد صالونات الحلاقة وإلزام النساء بارتداء النقاب، وجدناهم يعلنون الحرب العلانية ضد الليبرالية والليبراليين، وكما ظننت بهم عدم معرفتهم بالأمور الدينية سالفة الذكر، فأنا علي يقين بأنهم يعتقدون بكفر الليبرالي وبشرك الليبرالية الوثنية، ولو استطاع المرء منا اقتناص دقائق محدودة من وقت هؤلاء الثمين لسؤالهم عن معني كلمة ليبرالية وتارخها وأبرز أفكارها ودور روادها في تنوير العقل لما خرجنا من أسئلتنا هذه بإجابة محددة شافية اللهم سوي القول بتكفير كل من ينتسب لهذا الفكر الليبرالي الملعون . إن مصر تمر بحق بعملية قلب مفتوح، وإجراءات حماية مصر من أي أعراض مرضية أخري كنزلات البرد والسعال وارتفاع درجة الحرارة لهي أمور صعبة بل تكاد مستحيلة هذه الأحايين، ولكن رغم حلكة الصورة تقفز عبارة توفيق الحكيم إلي الذهن لتنيره حينما قال "أمة أتت في فجر الإنسانية بمعجزة الأهرام لن تعجز عن الإتيان بمعجزة أخري أو معجزات، لقد صنعت مصر قلبها بيدها ليعيش إلي الأبد".