كنت أظن أن حرب داحس والغبراء بين الشقيقتين مصر والجزائر التي اشتعلت بسبب ماتش كورة قد انتهت بعد أن كشف عقلاء الشعبين أن الذي أشعل تلك الحرب الجهلاء من جنرالات الفضائيات وخبثاء السياسة ومتعصبي الملاعب.. الا أنه خلال الأحاديث التي تدفقت عبر جلساتنا الرسمية وغير الرسمية خلال مهرجان المسرح العماني الرابع في مدينة مسقط لم يخف ابراهيم بن نوال المستشار الفني بالمسرح الوطني الجزائري احساسه بالمرار تجاه أشقائه المصريين.. حتي انه في احدي الندوات التي ظهر فيها شيئا من الاختلاف حول من هو رائد المسرح العربي صاح بن نوال: أقول لأخواني المصريين كفوا عن اثارة قضية الريادة.. وعن ترديد أن مصر أم الدنيا.. فالعرب جميعا أم الدنيا..! وذهلت أن كان مثقفا جزائريا كبيرا.. بل ومسئولا كبيرا مثل ابراهيم بن نوال يختزن في داخله مثل هذا الشعور بالمرار واعتقاده أن منطلقات المصريين تجاه إخوانهم العرب شوفينية متعالية .. فماذا عن آخرين.. ليسوا بقامة بن نوال ثقافة وفكرا!! لكن.. كيف لم يشعر الأشقاء الجزائريون بموقف عقلاء مصر وهم كثر من تلك الفتنة وشجبهم لما حدث؟ أهو الصوت العالي لجهلاء الفضائيات والمتعصبين والشوفينيين الذين حجبوا أصوات الحكمة هنا وهناك حتي لا تصل للشارعين المصري والجزائري..؟ وبالطبع الاجابة نعم. قطيعة بين المشرق والمغرب وثمة سبب آخر أدركه منذ زمن بعيد وتيقن لي خلال مناقشات مهرجان مسقط.. تلك القطيعة الثقافية والاعلامية بين جناحي الأمة مشرقها ومغربها.. انهم لايتابعون ما نكتب.. ونحن أيضا لانتابع ما يكتبون..!والجهل عادة رحم خصم لتكوين الأراء الخاطئة عن الآخر التي لاتكون منصفة.. وبالتالي يولد التوجس الذي ينمو ويعشش في النفوس ويتحول الي كراهية! ولدي معظمنا اعتقاد في المشرق العربي أن كتّاب المغرب العربي من كاتب ياسين الي آسيا جبار الي الطاهر بن جلون وغيرهم العشرات من كتّاب الجزائر والمغرب ينتمون الي الثقافة الفرانكفونية لأنهم أقصوا الفصحي ويصرون علي الكتابة بالفرنسية.. وحين قلت هذا في إحدي الندوات رد الكاتب والناقد المسرحي المغربي دكتور عبد الرحمن بن زيدان.. أنهم يكتبون بالفرنسية لتمرير الثقافة العربية كما يفعل الطاهر بن جلون.. وعلق ابراهيم بن نوال أن المفكر الجزائري كاتب ياسين كان يردد أنه يكتب بالفرنسية لأنها غنيمة حرب لكنه يفكر كجزائري! من هو رائد المسرح العربي؟ وكانت محاولة الدكتور سيد علي اسماعيل الباحث الأستاذ بكلية دار العلوم جامعة المنيا ازالة ما يراه محاولة صهيونية لاغتصاب حق عربي وراء اشتعال تلك الجدليات.. والقضية تتعلق بمن هو رائد المسرح العربي.. والمستقر في العقل الجمعي العربي أنه مارون نقاش الذي ترجم وعرض مسرحية موليير " البخيل " في بيروت عام 1847.. الا أن الدكتور فيليب سادجروف نشر عام 1996 كتاباً بالإنجليزية بعنوان "المسرح المصري في القرن التاسع عشر" ذكر فيه أن أول مسرحية عربية كتبها يهودي جزائري اسمه "إبراهام دانينوس " وكانت بعنوان "نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق".. وهي مطبوعة بالحجر في الجزائر عام 1847م! كما ألمح سادجروف بأن مسرح مارون النقاش كان أوربي الطراز. ومن خلال هذه الإشارات - يقول الدكتور سيد اسماعيل - يسعي سادجروف الي ايهام القارئ بأن الريادة الحقيقية للمسرح العربي لم تكن علي يد مارون النقاش - صاحب التجارب المسرحية العربية الأوروبية الطراز - بل كانت علي يد إبراهام دانينوس مؤلف أول مسرحية عربية الطراز! وتجلية هذا الأمر تتمثل في أن سادجروف نشر - بعد كتابه هذا مباشرة - كتاباً آخر عام 1996م بالاشتراك مع شامويل موريه أستاذ الأدب العربي الحديث بالجامعة العبرية - بعنوان "الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية في القرن التاسع عشر".. وهذا الكتاب احتوي نصوصاً مسرحية عربية لمؤلفين من اليهود العرب في الجزائر وسوريا.. والدراسات المصاحبة لهذه النصوص تصف مؤلفيها بأنهم رواد المسرح العربي الحديث.. وأول نص مسرحي منشور كان "نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق" لإبراهام دانينوس. وعلي الرغم من أن الكتاب ذكر صراحة إن هذه المسرحية تم اكتشافها من غير ذكر تاريخ لها أو مكان لنشرها، إلا أن المؤلفين ذكروا أنها أُلفت حوالي سنة 1847م وفي موضع آخر قال (ربما) عام 1848!! وهذا التاريخ هو التاريخ المعروف لعرض مسرحية البخيل لمارون النقاش، إلا أن كتّاب الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية شكك في هذا التاريخ عندما تناول مسرحية البخيل مُشيراً إلي أنها مُثلت في بيروت عام 1847م أو في فبراير 1848م، كما جاء صراحة في الكتاب. ومن خلال هذا التشكيك ينتهي الكتاب إلي استنتاج مفاده، أن مارون النقاش لم يكن رائداً مسرحياً عربياً لأن عروضه كانت أوروبية الطابع، بعكس إبراهام دانينوس مؤلف أول مسرحية عربية الطابع عام 1847م. وبذلك يستنتج قارئ الكتاب أن اليهود كانوا رواداً للحركة المسرحية العربية في القرن التاسع عشر!! وفي عام 1997م قال شامويل موريه صراحة في مقدمة مسرحية الأحمق البسيط: ""وبذا يكون إبراهام دانينوس قد سبق مارون النقاش منشئ المسرح العربي"! وينوه اسماعيل الي أنه التقي الدكتور مخلوف في الجزائر.. وتحدث معه في هذا الشأن فأكدّ له أن نص مسرحية إبراهام دانينوس غير مؤرخ، بل والنسخة الوحيدة غير موجودة الآن في المكتبة الوطنية الجزائرية..! العربة والحصان مجددا وما كانت التباسات ريادة المسرح العربي وما يراه بعض الأشقاء الجزائريين من شوفينية مصرية فقط بؤر الاشتعال في مهرجان المسرح العماني.. بل أيضا مسألة استمرارية المهرجان نفسه.. وهي قضية تثار دائما مع تنظيم أي مهرجان سينمائي أو مسرحي في دول لم تحقق الكثير في المجالين.. حيث يري البعض أن الاصرار علي اقامة مثل هذه المهرجانات كمن يضع العربة أمام الحصان.. ويرون أن الأولوية ينبغي أن تمنح للتأسيس للفن ثم نفكر بعد ذلك في اقامة مهرجانات تحتفي بالحصاد.. خلال مهرجان مسقط شاهدنا ثمانية عروض مسرحية.. بدت خمسة منها مثقلة بخطايا مسارح الهواة.. حتي ان طفلا عمانيا في العاشرة من عمره صعد الي منصة التعقيب عقب انتهاء عرض احدي المسرحيات الخمسة وقال بعفوية: كأن العرض البروفة الأولي للمسرحية! إذن فهذا الطفل حدد لنا الي حد كبير مشكلة المسرح العماني.. انه يبدو وكأنه مثقل بأخطاء البروفة الأولي لأي عرض.. ! بالطبع ثمة عروض جيدة شاهدناها خلال المهرجان مثل مسرحية الكهف للمخرج والمؤلف الشاب جلال عبدالكريم جواد والذي فاجأنا بنص جيد واخراج الي حد كبير مقنع.. وأداء من الممثلين ينم عن وعي بأبعاد الشخصيات والقدرة علي تجسيدها.. وفي الليلة السابعة أمتعنا المخرج محمد الهنائي من خلال مسرحية البئر التي فازت بجائزة أفضل عرض مسرحي بقدرته علي الغوص في نص الكاتبة آمنة ربيع.. واستنطاقه مسرحيا عبر أداء فريق من الممثلين وعي قدراتهم وكيفية توظيفها جيدا في تقمص الشخصيات.. مما انعكس ايجابيا في هضم الرسالة التي انطوي عليها النص من أن ثمة قهرا انسانيا مازال يمارس علي العنصرين اللذين يراهما البعض منقوصين.. المعوق ذهنيا.. المنقوص عقلا.. والأنثي.. المنقوصة عقلا ودينا. الا أن تميز هذين العرضين.. ويضاف اليهما الي حد ما مسرحية "صباح الخير" للمخرج عماد الشنفري استثناء لايمكن أن يخفي حقيقة أن المسرح العماني الآن يعاني اختلالات.. والتي دفعت الباحث السوري الدكتور عجاج سليم الي القول من فوق منصة التعقيب أكثر من مرة أن النعاس كان يغلبه خلال العرض..!.. وأوجز الفنان محمد صبحي اشكالية حاضر صناعة المسرح العماني.. حين قال في احدي الندوات: الموهبة وحدها لاتكفي.. لابد من التعليم. " المعجونون " بعشق المسرح..! لكن الملح الآن اعادة هيكلة مهرجان المسرح العماني بحيث ينظم سنويا.. فإن أخذ المسئولون في وزارة التراث القومي والثقافة برأيي هذا - وهو أيضا رأي العديد من المسرحيين العمانيين والعرب الذين شاركوا في المهرجان كما بدا من مداخلاتهم في ندوات التعقيب علي العروض - فيمكن من الآن بدء الاستعداد للمهرجان الخامس من خلال تنظيم ورش تدريبية لمدة ستة أشهر بالتعاون بين جامعة السلطان قابوس ووزارة التراث والثقافة.. ويجري خلال تلك الورش دراسة العروض التي قدمت خلال المهرجان الرابع وما عاناه بعضها من اختلالات.. أما الستة أشهر الأخري فتعد فيها الفرق عروضها التي ستقدمها خلال المهرجان .. . وأتذكر أنه في لقاء بدينامو المهرجان ومديره الدكتور عبدالكريم جواد عقب العرض الرابع وبحضور عدد من المسرحيين قلت له إنه من الأجدي تأجيل المهرجان خمس سنوات الي أن توجد أعمال مسرحية جديرة بالمشاركة..! إلا أنه قال بأن وجود المهرجان هو الذي يؤدي الي صناعة عروض جيدة.. ونالت وجهة نظره استحسان الحضور.. والآن أري ما يرون.. فالمهرجان الرابع ونتاجا لحسن التنظيم الذي أشرف عليه مباشرة الشيخ حمد بن عبدالله المعمري وكيل وزارة التراث والثقافة من خلال رئاسته للجنة الرئيسية تحول الي ورشة عمل من خلال ندوات التعقيب علي العروض والحلقات الدراسية حول طرق الاخراج المسرحي والتي حاضر فيها أساتذة المسرح من أقطار عربية مختلفة يقينا انعكست ايجابا علي الجميع.. حيث أثرت مرجعيتهم المعرفية بتجارب ومعارف كانت غائبة عنهم..! رحلة بناء مسرح عماني ليست ألف ميل.. هي دون ذلك بكثير.. لكنها حتي لو اختزلت إلي خطوات فتلك الخطوات لا يمكن اجتيازها إلا بالإرادة.. إرادة الفنان.. والاختبار المحوري للإرادة أن يتدرب ويتعلم.. وكما قال الفنان محمد صبحي في إحدي الندوات موجهاً حديثه للمسرحيين العمانيين: تعملوا.. تكونوا! وهذا ليس درساً يلقي به أستاذ من فوق سحاب الغرور والتعالي.. فصبحي نفسه مازال يتعلم.. والموت الحقيقي للإنسان.. ليس فقط أن يتوقف عطاؤ.. بل أن يكف عن التعلم!.. فبماذا تتدفق شرايين العطاء أن لم تتغذ بروافد التعلم..!