قد لا نكون بحاجة إلي بيان من هم دعاة الردة الفكرية، فسيماهم علي وجوههم من أثر فتاواهم وأقوالهم المعبرة وبدقة عن جمودهم، وتفسيراتهم المتخلفة للإسلام : عقيدة وشريعة، واتخاذ هذا الفهم المتخلف مدعاة لتحريمهم كل شيء، فاتسعت علي أيديهم دائرة المحرمات، وضاقت دائرة الحلال. بل تحول الإسلام علي أيديهم إلي الحديث عن السحر والجان، ومدي شرعية الزواج منهم، ناهيك عن اعتبار الإبداع الفني من البدع المحرمة، ومن ثم التطاول علي مبدعينا وكتابنا وفنانينا، ووصفهم بأقبح الصفات وأرزلها، بل وتكفيرهم إذا لزم الأمر . الآثار والأصنام أما آثار مصر وميراثها الحضاري، فاعتبروها أصناماً وأوثاناً يجب القضاء عليها، أو علي الأقل تغطيتها بالشمع . ناهيك عن تلك الفتاوي المضحكة المبكية التي تحولت إلي نكات بين العامة والخاصة، بل وإلي خناجر مسمومة بات يستخدمها أعداء الإسلام للإساءة إليه، والنيل من رسوله «ص» ووصفه بأبشع الصفات. وغيرها من مظاهر الردة الفكرية التي نعيشها ونحن في بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين . وهي ردة تكشف وبكل المعايير مدي المفارقة الغريبة، بين هؤلاء في عصر العلم والتكنولوجيا، وبين ما كان عليه الرواد وزعماء الإصلاح والاستنارة ابتداء من النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وخلال النصف الأول من القرن العشرين من فكر سابق لعصرهم، وثقافة واسعة وعميقة، وجديدة متجددة، وطرح الرؤي التي كانت تشكل الصدمة للثقافة الجامدة المتخلفة التي كانت سائدة وقتها بين الناس، وكانوا يقولون الحق، ولا يخشون في قولهم لومة لائم، بل وعقدوا حوارات متعددة بعقلية تسامحية متفتحة مع ملحدي الغرب من المثقفين، واستطاعوا أن ينالوا إعجاب الأعداء قبل الأصدقاء، وأن يثبتوا أن الإسلام دين العلم والمدنية، فازداد عدد المستشرقين الباحثين عن عظمة هذا الدين، والكشف عن أسرار ازدهار الحضارة الإسلامية في القرن الثاني الهجري الثامن الميلادي، ومن ثم وجدنا العديد من مفكري الغرب يعترفون بعلم وإبداعات العرب وفضلهم علي الغرب ومنهم علي سبيل المثال المستشرقة "زجرد هنكة" وكتابها "شمس العرب تشرق علي الغرب" أما الفيلسوف الإنجليزي العالمي "برتراند راسل" فله صولاته وجولاته في الانبهار بالإسلام : عقلاً وحكمة، قيماً وخلقاً . ولكن وبعد مرور ما يزيد علي المائة عام تبين لنا أننا بالفعل نعيش ردة فكرية بتكاثر شيوخ وشيخات الفضائيات، علي اختلاف الأشكال والألوان، ابتداء بمفسري الأحلام، ومروراً بعلاج السرطان عن طريق قراءة بعض آيات القرآن الكريم، وبالحديث عن السحر والجان , ومدي شرعية الزواج منهم ناهيك عن فتاوي التبرك ببول الرسول. امتهان العقل وكانت الطامة الكبري والمفقدة للاتزان، ولم تكن يوماً في الحسبان، وكان ذلك أثناء الدعاية للانتخابات البرلمانية، حيث رأينا وسمعنا ما يشكل امتهاناً للعقل والوجدان المسلم، وغير المسلم، وذلك عندما تم رفع الشعارات وإصدار الفتاوي بتكفير من لم ينتخب مرشحي ما يطلقون علي أنفسهم التيار السلفي، وأن انتخابهم لمرشحي هذا التيار يعد فرض عين، وأنه باب الدخول إلي "الجنة"، إلي جانب تكفير منافسيهم، ووصفهم بأبشع الصفات ولم ينج أقرب الناس إليهم، ممن يطلقون علي أنفسهم بالتيار الإسلامي، وأخيراً وليس آخراً ذلك الهجوم الضاري، الذي لا ينم إلا عن تخلف وثقافة بربرية، وهو النيل من أديبنا العالمي نجيب محفوظ، الذي نحتفل بمئويته هذه الأيام، والذي يعيد للأذهان تلك الفتاوي التي أصدرها دعاة الردة الفكرية، وأدت إلي محاولة اغتياله، ناهيك عن النيل من قاماتنا الشامخة في الأدب والفن . فأين هؤلاء الذين يوصفون بالمشايخ والدعاة، ويعتبرون أنفسهم أنهم وحدهم حماة الإسلام والمدافعون عنه ؟ نقول أين هؤلاء من تلك النجوم الزاهرة من أئمة الإسلام وعلمائه، الذين انتصروا به وله : عقيدة وشريعة، فكراً وسلوكاً، فكانوا القامات الرفيعة السامقة، وكانوا الذرا، وهم كثر، ونكتفي هنا بإمام الأئمة، العالم والمفتي الجليل، الفقيه المستنير، صاحب مدرسة الحداثة والتجديد، أحد أهم زعماء الإصلاح في العصر الحديث، فيلسوف المتكلمين، عبقري الإصلاح والتعليم، السياسي الرصين، والمفسر المتمكن للقرآن الكريم، أحد أعلام الحرية المعروفين، ونصير المرأة في عصر الجمود والتخلف، وأخيراً وليس آخراً اللغوي الناقد الأدبي المبدع، وغيرها من الصفات والخصائص التي هي في الحقيقة عناوين لبعض الكتب والمؤلفات التي وضعها، ومما كتبه نتوقف عند بعض أفكاره وتحليلاته ورؤاه، ذات الارتباط بما نحن بصدده الآن. انطلاقه فيما يصدره من فتاوي من رؤية تنويرية عصرية تقوم علي استخدام منهجية العقل، والإيمان بحرية الإنسان، واستقلال إرادته واعتماده علي التأويل، والتفسير لروح القرآن الكريم دون التوقف عند حرفية النصوص. إيمانه المطلق بأهمية العقل الإنساني وأن أحكامه تتميز بالموضوعية، وأنه الطريق للخلاص من الخرافات والأوهام، وأنه لا تعارض بين العقل والدين، فالإسلام كما يقول يرتكز علي أصول عقلية، وأول هذه الأصول هو النظر للعقل لتحصيل الإيمان، والأصل الثاني تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض بينهما، فإذا تعارض العقل والنقل تم الأخذ بما دل عليه العقل، مع محاولة تأويل هذا الظاهر بما يتفق مع أحكام العقل . ونتأمل هذا الكلام للإمام محمد عبده، ففيه أبلغ رد علي هؤلاء المتشبثين بكل ما في التراث الإسلامي، وما يعانيه في الكثير من جوانبه من إسرائيليات خرافات وخزعبلات، وأحاديث ضعيفة منسوبة إلي الرسول الكريم ومنها براء، وغيره مما يعتمد عليه ممن ابتلينا بهم هذه الأيام من شيوخ وشيخات، مفتين ومفتيات، والذين لا هم لهم إلا التمسك بأسوأ ما في هذا التراث وأضعفه للتعامل مع عصر العلم والتكنولوجيا . خطباء المساجد غير أن اللافت للنظر هو ما يقوله الإمام محمد عبده عما عليه وضع خطباء المساجد في عصره لنتابع ما يقوله ومقارنته بما عليه وضع خطباء المساجد الآن، يقول الإمام " لقد استحوذ الجهل علي أئمتنا، وأفسدت الخرافات فطرتهم وأخلاقهم، فلا هم لهم فكل همهم تزهيد الناس، ودفعهم إلي الخمول والكسل، غير أن هذا التزهيد من قبل خطباء المساجد لم يصاحبه الاستعداد للآخرة في الدنيا، حيث زهدوا الناس في دنياهم، وقطعوها عن الآخرة، فخسروا الاثنين معاً، وهذا هو الخسران المبين " ويتابع القول " إن خطب الجمعة التي شرعت لتكون درساً عاماً أسبوعياً لكل المسلمين، لم تزد الناس إلا جهلاً وفساداً، فأكثرها يدور حول فضائل الشهور والمواسم، والإغراء والكسل والتواكل، وأكثر ما يذكر فيها من أحاديث نبوية، هي أحاديث واهية يحرم إسنادها إلي الرسول الكريم". هذا ما قاله الإمام محمد عبده منذ أكثر من مائة عام، ولسنا بحاجة إلي القول، إنه بقوله وكأنه يعيش بين ظهرانينا، وفي قرانا ومدننا، وكأنه يطالع من كتاب مفتوح حال خطباء مساجدنا، وفتاوي مشايخنا وشيخاتنا الذين امتلأت بهم الفضائيات بل ومنهم من يحتل مواقع مرموقة، وبفتواهم يحددون حركة المسلم وسكناته، ابتداء من دخول الحمام في الصباح إلي أن يدخل حجرة نومه، بل وأعطوا لأنفسهم حق الدخول معه، والتحكم في ممارساته مع زوجته، إذا ما أغمض عينه ونام، لا يرحمه في نومه مفسر الأحلام باختصار بات المسلم في يقظته ونومه، حركته وسكونه، في يد شيخ أو شيخة، يحدد له حياته، منساقاً مسلوب الإرادة، ولا حول ولا قوة إلا بالله فيما وصل إليه حالنا في عصر النانوتكنولوجي، والفامتوثانية، ونتوقع أن الآتي هو الأخطر، طالما استمر الوضع علي ما هو عليه، والوضع هنا الثقافة السائدة الجامدة المتخلفة، ما يفرض علينا ضرورة التغيير الجذري لهذه الثقافة، وتنقية تراثنا الإسلامي مما يعانيه من تخلف واستعادة فكرة الرواد المستنيرين، واتخاذهم القدوة والمثل، وهذه دعوة صادقة من غيور علي إسلامه إلي دعاة الردة الفكرية الذين ابتلينا بهم هذه الأيام .