تنشغل السينما المصرية إلي حد مقبول بالمشهد السياسي، بصرف النظر عن مستوي عمق الرؤية أو جدية الطرح أو حتي دوافع الاستغلال. فكثيرا ما تكون السياسة أحد التوابل أو المشهيات الجاذبة للجمهور في السينما والإعلام أيضا. ولاشك أن مدي الجدية في التناول والطرح، قد تصل إلي أدني مستوياتها ليس فقط في أفلام المقاولات لكن في أفلام كبري للنجوم السوبر حين تنحصر أهدافها في المتاجرة والادعاء ورفع أسهم النجم. وقد يغلب علي البعد السياسي طابع الترميز أو التلميح مثل رائعة شاهين «عودة الإبن الضال» أو يصل التصريح إلي مداه كما لم نر من قبل، كما حدث مع «حين ميسرة» لخالد يوسف. و يصل الطرح السياسي إلي أرقي مستويات الواقعية في العديد من أفلام الراحل عاطف الطيب مثلا. وقد تتسم الرؤية بكثير من العمق والرقي الفكري في كثير من أعمال داود عبدالسيد. لكن الغريب أنه في ظل هذا الزخم السياسي يظل المشهد الانتخابي نادرا في السينما المصرية. ربما يكون من أقدم المشاهد الانتخابية المؤثرة التي تعي عليها ذاكرة أبناء جيلي من فيلم «زقاق المدق» للمخرج حسن الإمام عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة. فالسرادق الانتخابي الذي يقام في الزقاق بما شهده من مهازل هو الموقع الرئيسي في بداية الفيلم. وتبقي الصورة السينمائية لهذه المهزلة الانتخابية هي الأعمق تأثيرا في الذاكرة الجمعية لجماهير كثيرة لعب الفيلم المصري دورا كبيرا في تشكيل وعيها وثقافتها ليس في مصر فقط بل في الوطن العربي كله. وتكاد تشكل الأحداث التي وقعت أثناءه نقطة التحول الدرامي المفصلية حيث تتعرف خلاله حميده -شادية- علي القواد -يوسف شعبان- الذي جاء إلي الحارة لتأييد أحد مرشحي الانتخابات والترويج لحملته.. وحيث ترتبط من خلال شخصيته فكرة القوادة في عالم الدعارة مع القوادة في عالم السياسة. وهي فكرة سعي الكثير من كتّاب السينما إلي تجسيدها والتأكيد عليها في أعمال لاحقة ربما تتبلور وتبدو أكثر وضوحا في فيلم «الراقصة والسياسي» لسمير سيف عن قصة إحسان عبد القدوس الذي تتفجر أزمته حين تقرر الراقصة الترشيح لمجلس الشعب. ولكن مشهد «زقاق المدق» يظل حاضرا دون أن يأتي أي مشهد آخر ليشاركه الصورة لسنوات طويلة. في خدمة النجم ويبدو أن النجم عادل إمام هو الأكثر اهتماما بهذا المشهد الذي يتكرر في عدد من أفلامه. ولكنه يتصدر الصورة ويشغل مساحتها الأكبر في فيلمه «الجردل والكنكة» أو «بخيت وعديلة 2» في هذا الفيلم تشكل مراحل العملية الانتخابية وحملتها واجراءاتها ونتائجها الحبكة الاساسية فنتابع صراع بخيت وعديلة من اجل الفوز في الانتخابات في مجلس الشعب. وتتوالي امامنا صور مختلفة لنماذج المرشحين الفاسدين والاستغلالين والمنتفعين. وعبر الاحداث تتابع الانقلابات والتكشفات والمفاجآت الدرامية التي تنتهي بفوز غير متوقع لبخيت وعديلة ودخولهما إلي مجلس الشعب. لكن الفيلم في الحقيقة لا ينشد النهاية السعيدة الملفقة ولا يتخلي عن موضوعيته حين نري بخيت وعديلة داخل المجلس وقد أحاط بهما أغلبية من رموز الفساد لندرك أن فوز أصحاب النوايا الطيبة في إحدي الدوائر قد لا يعني شيئا في ظل سيطرة الأشرار. وعلي الرغم من أن شخصية المؤلف واهتماماته تبدو غائبة في أفلامنا التي تخضع عادة لتوجهات النجم وتوجيهاته إلا أنه بإمكاننا ان نلمح تكرار المشهد في افلام السيناريست الراحل عبدالحي أديب. فمن منا بإمكانه أن ينسي الجدل الدائر طوال أحداث الفيلم حول تأسيس رابطة للشيالين بالمحطة وانتخاب رئيس لها. وإذا كان خط قناوي هو الطاغي إلا أن لهذا الخط تأثيره وأهميته. يعود نفس الكاتب في «بيت القاضي» عن رواية إسماعيل ولي الدين مع المخرج أحمد ياسين ليركز هذه المرة علي انتخابات مجلس الشعب في إحدي الدوائر. يتفجر الصراع في حارة بيت القاضي حين يرشح المعلم نفسه في انتخابات البرلمان. فتنكشف كل الشخصيات التي تساعد تاجر المخدرات للوصول إلي المجلس كل من اجل مصالحه الشخصية. وحيث تتبدي الصورة المخيفة لمجتمع علي وشك الانهيار يسعي الكل فيه إلي خلاصه الشخصي دون إدراك أن هذا يأتي علي حسلب وطن يحتضر. تمثيلية الانتخابات ولا يغيب المشهد الانتخابي عن فيلم آخر من تأليف أديب وهو «امرأة واحدة لا تكفي». فتأتي انتخابات نقابة الصحفيين كحدث مفصلي ومؤثر يتمكن البطل من خلاله من استعادة أسهمه المنهارة وتجاوز أزماته بفوزه في انتخابات النقابة مستغلا تعاطف الناخبين معه بعد اصابته علي يد خصومه وظهوره بالكرسي المتحرك متظاهرا بالشلل وهو يروج لحملته في أداء تمثيلي ولكن مؤثراً علي جموع الناخبيين. لكاتب هذه السطور تجربة محدودة مع الانتخابات كان أولها في سيناريو طموح لفيلم «السياسي» من انتاج 1992 عن شابين يمارسان العمل النقابي من اجل حقوق المهنة وكرامة زملائهم. ينجح احدهما في الانتخابات والصعود إلي أعلي المراكز ولكنه يقع في شباك سلسلة من التنازلات تسقطه عن هدفه وتحيله إلي احد كلاب السلطة بينما يفشل الآخر في النجاح في الانتخابات ولكنه يظل علي عهده وولائه لزملائه ويواصل طريقه الصعب نحو الهدف. ولكن للأسف لم يأت الفيلم علي مستوي طموح السيناريو وأحالته ظروف التنفيذ إلي فيلم تجاري تقليدي ضعيف غلب عليه طابع الميلودراما وعناصر الجذب التجاري حتي تكاد تختفي الحبكة الأصلية ويتهمش موضوع الصراع في الانتخابات. علي النقيض من الصورة الجادة التي سعيت إلي تحقيقها في «السياسي» كانت هناك صورة هزلية لانتخابات تمثلية في فيلم آخر من تأليفي هو «تعالب أرانب» حين تجري العصابة انتخابات لإختيار زعيم جديد من أجل إغراء ضحيتهم بالسلطة وبأنه سيتبوأ منصب زعيم العصابة بانتخابات ديمقراطية تضمن شرعية بقائه في سلطة إدارة مؤسسة غير شرعية. وتتضمن مفردات هذا المشهد الطويل مواقف وحوارات تسخر من النظام الحاكم والتمثيليات الهزلية التي يمارسها في انتخاباته التشريعية والرئاسية. ديمقراطية البلهاء في مقابل هذه السخرية المستترة تأتي تجربة المؤلف طارق عبد الجليل مع فيلم «ظاظا» للمخرج علي عبدالخالق هي الأكثر صراحة ومباشرة وإثارة للدهشة. فالانتخابات هنا علي رئاسة الجمهورية والمثير حقا أن المواطن العادي البسيط ينجح في الفوز علي الرئيس العجوز الجاثم علي صدر الدولة منذ زمن بعيد. يأتي الفيلم كإحدي مغامرات نجم من جيل أحدث مع السلطة وهو هاني رمزي الذي اعتاد علي أن يحقق خليطا من النقد السياسي والهزلية المفرطة. وعلي الرغم من جرأة الفيلم الشديدة إلا أن إفراطه في الهزل يبعده عن المصداقية فضلا عن ان شخصية البطل هي أقرب للغباء والتخلف من الشخصية العادية. ولك أن تتخيل ان هذا الشاب هو الذي انتزع كرسي الرئاسة في انتخابات نزيهة لم نكن نعرفها. وربما يعد فيلم «عمارة يعقوبيان» أكثر الأفلام واقعية وجرأة في نقد فساد الانتخابات في عهد النظام السابق. يتشكل فيلم «عمارة يعقوبيان» من عدة خطوط أو شخصيات. يحظي من بينها بالقدر الاكبر من الاهتمام زكي الدسوقي ربما لأن الذي يقوم بالدور النجم السوبر عادل امام. ولكن خط الحاج عزام الذي يلعبه نور الشريف لا يقل اهمية في الرواية ولا في الحبكة الدرامية التي تسعي لعرض بانوراما لصور الفساد والقبح المخيم علي العمارة كرمز لتدهور الوطن. المجلس والحصانة ويتجسد هذا التدهور بمنتهي الوضوح في شخصية عزام الذي يصعد بفضل تجارة المخدرات من بدايته كماسح احذية ثم تاجر عملة ليصبح رجل اعمال. ولكنه يجد أن المال وحده لا يكفي بلا نفوذ يحميه، فيقرر الترشح لمجلس الشعب لنتعرف من خلاله علي التفاصيل العفنة والهبوط المنحط الذي وصل اليه النظام في صورة كمال الفولي الرجل المقرب من أعلي السلطات في البلاد والقادر علي توصيل عزام او غيره إلي مجلس الشعب برشوة لا تقل عن المليون. وهكذا يكشف الفيلم عن حقيقة أكذوبة الانتخابات والتأكيد علي انها لم تكن سوي تمثيلية هزلية او لعبة للتمويه ولكن نتيجتها معروفة مسبقا ولا يفوز فيها غالبا سوي من يقدر علي دفع التمن. ونخوض مع عزام مغامرته الطائشة في رفض السداد لندرك معه نتائجها الوخيمة. وكيف يمكن لمافيا الفساد أن تطيح بمن يلاعبها أو يتلاعب بها. ويعد فيلمي «عين شمس» لإبراهيم البطوط و«ميكروفون» لأحمد عبدالله من أحدث الأفلام التي ظهر فيها المشهد الانتخابي بصورة أقرب للواقعية. في الفيلمين لا تتجسد لديك صورة كاملة عن العملية الانتخابية ذاتها ولكنك بالتأكيد أيضا تطل علي صورة حقيقية وصادقة لما يدور في سرادقاتها او حملات دعايتها. وكيف يتعامل معها الأهالي وكيف يفكرون فيها والحوارات التي تدور خلالها. وبينما يغلب التجريد علي الصورة بما تحمله من دلالات في ميكروفون فتكاد تنحصر في الشاب المسئول علي حراسة الملصق الدعائي، فإن المشهد الانتخابي في عين شمس يكشف عن صورة المواطن المطحون في أحد ضواحي القاهرة والذي انهكه ثلاثي الفقر والجهل والمرض واضعف قدرته علي استيعاب ما يدور حوله واحاله إلي كائن محطم يتشبث بأي أمل في الإنقاذ أو حتي في فرصة للتعبير عما يجيش في صدره من آلام. قد تلمح مشاهد أو إشارات للانتخابات هنا أو هناك ولكن يظل غياب ظهور العملية الانتخابية بصورة إيجابية أو جادة في غالبية أفلامنا هو تعبير حقيقي عما تميزت به هذه العملية من هزلية وتلفيق. ولكن أهم ما يميز المشهد السينمائي في هذا المجال في غالبية إنتاجه انه لم يتملق النظام البائد ولم يزيف حقيقة المشهد ولم يحيد عن الواقعية إلا قليلا حتي وهو في قمة الهزل والسخرية.