أسعار الدواجن اليوم الجمعة 9-5-2025 في محافظة الفيوم    بمشاركة السيسي، توافد المشاركين بالذكرى الثمانين لعيد النصر إلى السجادة الحمراء بموسكو    بابا الفاتيكان الجديد ليو الرابع عشر يقيم أول قداس كبير اليوم الجمعة    جوميز: مواجهة الوحدة هي مباراة الموسم    خريطة الحركة المرورية اليوم بمحاور وميادين القاهرة والجيزة    زيلينسكى يعلن أنه ناقش خطوات إنهاء الصراع مع ترامب    «أوقاف شمال سيناء»: عقد مجالس الفقه والإفتاء في عدد من المساجد الكبرى غدًا    ارتفاع صادرات الصين بنسبة 8% في أبريل    التنمر والتحرش والازدراء لغة العصر الحديث    تكريم حنان مطاوع في «دورة الأساتذة» بمهرجان المسرح العالمي    فرص تأهل منتخب مصر لربع نهائي كأس أمم أفريقيا للشباب قبل مباراة تنزانيا اليوم    أسرة «بوابة أخبار اليوم» تقدم العزاء في وفاة زوج الزميلة شيرين الكردي    حبس المتهمين بسرقة كابلات كهربائية بالطريق العام بمنشأة ناصر    في ظهور رومانسي على الهواء.. أحمد داش يُقبّل دبلة خطيبته    جدول مواعيد مباريات اليوم الجمعة والقنوات الناقلة    بعد بيان الزمالك.. شوبير يثير الجدل برسالة غامضة    تويوتا كورولا كروس هايبرد 2026.. مُجددة بشبك أمامي جديد كليًا    الهباش ينفي ما نشرته «صفحات صفراء» عن خلافات فلسطينية مع الأزهر الشريف    حملات تفتيش مكثفة لضبط جودة اللحوم والأغذية بكفر البطيخ    مصر تنضم رسميًا إلى الاتحاد الدولي لجمعيات إلكترونيات السلامة الجوية IFATSEA    في أجواء من الفرح والسعادة.. مستقبل وطن يحتفي بالأيتام في نجع حمادي    تبدأ 18 مايو.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 للصف الرابع الابتدائي بالدقهلية    طريقة عمل الآيس كوفي، الاحترافي وبأقل التكاليف    مفاجأة بعيار 21 الآن بعد آخر تراجع في سعر الذهب اليوم الجمعة 9 مايو 2025    مستأجرو "الإيجار القديم": دفعنا "خلو" عند شراء الوحدات وبعضنا تحمل تكلفة البناء    في عطلة البنوك .. آخر تحديث لسعر الدولار اليوم بالبنك المركزي المصري    أيمن عطاالله: الرسوم القضائية عبء على العدالة وتهدد الاستثمار    إلى سان ماميس مجددا.. مانشستر يونايتد يكرر سحق بلباو ويواجه توتنام في النهائي    مؤتمر النحاس: نلعب مباراة كل 4 أيام عكس بعض الفرق.. ورسالة لجماهير الأهلي    سالم: تأجيل قرار لجنة الاستئناف بالفصل في أزمة القمة غير مُبرر    خبر في الجول - أحمد سمير ينهي ارتباطه مع الأولمبي.. وموقفه من مباراة الزمالك وسيراميكا    دراسة: 58% يثقون في المعلومات عبر مواقع التواصل الاجتماعي    رئيس الطائفة الإنجيلية مهنئا بابا الفاتيكان: نشكر الله على استمرار الكنيسة في أداء دورها العظيم    «إسكان النواب»: المستأجر سيتعرض لزيادة كبيرة في الإيجار حال اللجوء للمحاكم    الجثمان مفقود.. غرق شاب في ترعة بالإسكندرية    بنك القاهرة بعد حريق عقار وسط البلد: ممتلكات الفرع وبيانات العملاء آمنة    في المقابر وصوروها.. ضبط 3 طلاب بالإعدادية هتكوا عرض زميلتهم بالقليوبية    جامعة المنصورة تمنح النائب العام الدكتوراه الفخرية لإسهاماته في دعم العدالة.. صور    وسائل إعلام إسرائيلية: ترامب يقترب من إعلان "صفقة شاملة" لإنهاء الحرب في غزة    زيلينسكي: هدنة ال30 يومًا ستكون مؤشرًا حقيقيًا على التحرك نحو السلام    المخرج رؤوف السيد: مضيت فيلم نجوم الساحل قبل نزول فيلم الحريفة لدور العرض    غزو القاهرة بالشعر.. الوثائقية تعرض رحلة أحمد عبد المعطي حجازي من الريف إلى العاصمة    تفاصيل لقاء الفنان العالمي مينا مسعود ورئيس مدينة الإنتاج الإعلامي    «ملحقش يتفرج عليه».. ريهام عبدالغفور تكشف عن آخر أعمال والدها الراحل    كيم جونغ أون يشرف على تجربة صاروخية ويؤكد جاهزية السلاح النووي    موعد نهائى الدورى الأوروبى بين مانشستر يونايتد وتوتنهام    سهير رمزي تعلق على أزمة بوسي شلبي وورثة الفنان محمود عبد العزيز    عيسى إسكندر يمثل مصر في مؤتمر عالمي بروما لتعزيز التقارب بين الثقافات    حكم إخفاء الذهب عن الزوج والكذب؟ أمين الفتوى يوضح    مصطفى خليل: الشراكة المصرية الروسية تتجاوز الاقتصاد وتعزز المواقف السياسية المشتركة    محافظة الجيزة: غلق جزئى بكوبري 26 يوليو    «الصحة» تنظم مؤتمرًا علميًا لتشخيص وعلاج الربو الشعبي ومكافحة التدخين    علي جمعة: السيرة النبوية تطبيق عملي معصوم للقرآن    ب3 مواقف من القرآن.. خالد الجندي يكشف كيف يتحول البلاء إلى نعمة عظيمة تدخل الجنة    انطلاق المؤتمر الثالث لوحدة مناظير عائشة المرزوق في مستشفى قنا العام    محافظ سوهاج يوجه بسرعة استلام وتشغيل مركز الكوثر الطبي خلال أسبوعين    "10 دقائق من الصمت الواعي".. نصائح عمرو الورداني لاستعادة الاتزان الروحي والتخلص من العصبية    نائب وزير الصحة يتفقد وحدتي الأعقاب الديسة ومنشأة الخزان الصحية بأسوان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليبيا تتطهر من نظام القذافي دار دار شبر شبر زنقة زنقة
نشر في القاهرة يوم 29 - 11 - 2011

حاولت في الحلقات الماضية أن ألقي نظرة شمولية علي تاريخ العهد الاستبدادي، واهم محطاته وجرائمه، مع فصل عن مصرع الطاغية، باعتباره الحدث الاكبر في هذه المسيرة المؤلمة المحزنة والمعاناة القاسية التي عاشها الشعب الليبي، حتي تحقق له الخلاص بعد فاتورة باهظة من التضحيات والضحايا، وأردت في هذه الحلقة الاخيرة أن انتقل من الماضي إلي الحاضر، ثم المستقبل، بمعني الحديث باختصار عن اهم ملامح ثورة 17 فبراير، من بدء تفجرها وحتي لحظة انتصارها، وسأحاول في الجزء الثاني من هذه الحلقة النظر إلي ما يحمله المستقبل وما جري التوافق عليه من أجندة للتحول وبناء الدولة الجديدة. وستبقي النقطة المرجعية في تسانومي الربيع العربي، علي مدي الدهر هي تلك الشرارة التي اشعلها بائع خضار متجول في قرية سيدي بوزيد، اسمه محمد البوعزيزي، وما اعقبها من تفجر انتفاضة «الشعب يريد إسقاط النظام» في تونس، وانطلقت الشرارة التي صنعت الحريق في تونس لتصنعه في مصر، حتي اطاحت الثورتان بالنظامين البوليسيين في القطرين، ووقف طاغية ليبيا معمر القذافي بين الحريقين، يندد بالثورتين ويدافع عن زعيمي الفساد والاجرام والقمع في البلدين ويشتم الشعبين، ضاربا المثل بشعبه الليبي، باعتباره شعب الطاعة والامتثال لرئيسه، مطالبا شعبي تونس ومصر أن يتأسيا به،ويسيرا علي دربه، ويتحدث حديث الواثق بأنه في مأمن من هذا التسانومي الذي اطاح بصديقيه، وخلال هذا الكلام كانت مواقع الانترنت وصفحات الفيس بوك قد اختارت يوما لبدء الثورة في ليبيا وحددته بيوم 17 فبراير، وهو ذكري آخر المجازر التي ارتكبها القذافي ضد الشعب الليبي، ففي مثل هذا اليوم من عام 2006 سقط عدد من القتلي زاد علي عشرة شهداء امام القنصلية الايطالية، في بنغازي، من بين أناس تظاهروا ضد الرسوم المسيئة للنبي، التي حظيت بتشجيع وزير ايطالي، ولأن الشرطة الليبية لا تعرف وسائل أخري للتعامل مع المتظاهرين، غير الرصاص فقد تعاملت مع المتظاهرين بالوسيلة التي تعرفها. القذافي واثقا إلا أن القذافي لم يكن يقيم اعتبارا لمثل هؤلاء الصبيان الثائرين علي الانترنت اطلاقا، ويعتبر نفسه قد سيطر سيطرة كاملة علي الشعب، وأوصله إلي مرحلة اليأس من قدرته علي التغيير، والعجز عن القيام بهذا التغيير، واثقا من بقائه في الحكم وانتصاره علي اي محاولة يقوم بها الناس لتهديد عهده، لثلاثة اسباب هي: أولا: إنه خلال اثنين واربعين عاما قام بالقضاء علي كل بادرة قوة لدي الشعب، وسحق إرادته وتدمير قياداته والاجهاز عليها، بل الاجهاز علي كل عنصر يمكن أن يشكل احتمال قيادة في المستقبل، منذ وجوده تلميذا في المدارس، ونجح في نهاية المطاف في ابقاء الشعب الليبي مرميا تحت قدميه، منهك القوي أشبه بالشاة الذبيحة . فكيف يمكن أن يتوقع خطرا أو يري تهديدا لنظامه من كائن ذبيح؟ ثانياً: كان القذافي يعرف أن لديه من اجهزة القمع والقهر، مالم يتوفر لاي دولة فوق الارض بالنسبة والتناسب مع عدد السكان، ويملك ترسانة من السلاح غير مسبوقة في تاريخ ليبيا حتي مع أناس مثل جرسياني سفاح ليبيا وقبله كانيفا قائد الغزو، وتوفرت له امكانيات لامتلاك الاجهزة ورشوة الدول في الخارج والمواطنين في الداخل بشكل لم يتكرر مع اي طاغية من طغاة الشرق والغرب، لأنه لم يحدث لاي طاغية في العالم أو في التاريخ، أن كان يملك كنزا غير محدود، يغترف منه ما يساوي مليارا من الدولارات كل اسبوع، مسخرا بكامله للحفاظ علي سلطته ولإحكام قبضته علي الشعب، حاكما مدي الحياة، وتسلم هذا الحكم فيما بعد لسلالة من الابناء والاحفاد كما تقتضي الخطة. ثالثا : كانت لدي القذافي الهالك الملعون، سياسة في القمع، لا تخضع لاي اعتبارات انسانية، ولا مرجعية قانونية اودستورية أو دينية، اوذات علاقة بما يعرفه البشر في الارض أو السماء من قيم أو مبادئ، لا يردعه رادع، ولا باعث من شفقة ولا رحمة علي تطبيق هذه السياسة القمعية الدموية الاجرامية، علي استعداد لإبادة الشعب كله، وهو ما انتواه في هذه الحرب وسبق أن اعلن اكثر من مرة عن نيته لاستبدال الشعب الليبي بشعب من المرتزقة يمكن أن يلائم مزاجه اكثر من الليبيين، وكان قد اتخذ خطوات معروفة في هذا الاتجاه، ولم يكن يتورع أو يتواني عن تدمير حي كامل وهدم منازل الحي علي رءوس اهلها في سبيل القضاء علي معارض أو خصم واحد من خصومه لجأ إلي هذا الحي، وسبق له أن أطاح بطائرة ومات كل ركابها لأنه كان قد استهدف راكبا واحدا كما حدث مع طائرة اليو تي أي التي سقطت في النيجر. ولهذه الاعتبارات لم يكن اطلاقا يعبأ بما ظهر في الانترنت من نداءات تطالب بالثورة عليه بدءا من يوم 17 فبراير، مليئا بالثقة انه قادر علي قمعها قبل قيامها، ولكي لا يترك الأمر للصدفة، اصدر تعليماته لمكتب الاتصال باللجان الثورية وهو ذراعه المدني للتصفية والارهاب ومطاردة المعارضين، باستخدام المجرمين واصحاب السوابق وعصابات القتل والمخدرات واطلاق سراحهم من السجون بمن فيهم المحكومين بالسجن المؤبد، لوضعهم في مواجهة الثوار، والتسلل لاي تجمع للفتك بمن فيه قبل أن تصل الشرطة أو تصل الكتائب الامنية العسكرية، التي تستكمل ما عجز المجرمون عن اكماله، وعقد في نفس الوقت اجتماعا مع رؤساء أجهزته الأمنية حسب رواية وزير خارجيته الهارب وأحد قادته الأمنيين المشاركين في كل ما حدث من جرائم ضد المعارضين في الثلاثين عاما الأخيرة واسمه موسي كوسي الذي هرب تحت حماية المخابرات البريطانية والأمريكية ويبدو أنه كان في ذات الوقت عميلا لكليهما. وحسب قول هذا الرجل فقد سأل القذافي هؤلاء القادة الامنيون قائلا "هل تعرفون لماذا نجح ثوار تونس ومصر في الاطاحة بزين العابدين وحسني مبارك" وقبل أن يتمكنوا من الإجابة، تولي هو الإجابة عن السؤال قائلا (لقد حصل ذلك لانهما سمحا بوصول الناس إلي الميادين للتظاهر، فهذا هو مكمن الداء الذي يجب أن نتجنبه) بمعني انه لا يجب أن يصل اي انسان يريد التظاهر إلي مكان التجمع مهما كان قريبا أو بعيدا من بيته أو من مكان انطلاقه، وأصدر أوامره كما يقول السيد كوسا له ولرفاقه بأن كل من يتحرك للتظاهر هو عدو يجب قتله، وأن الرصاص يجب أن ينطلق لاعتراض اي مواطن يريد أن يصل إلي مركز المدينة أو مركز الحي، وإردائه قتيلا، وهذه الميادين يجب أن تبقي حكرا علي عناصر اللجان الثورية، وعناصر الأمن السري، والعسكريين المتنكرين في ملابس مدنية، لإيهام العالم أن الميادين تمتليء بالمؤيدين للنظام والقائد، أما الثوار فالمدافع الرشاشة المنصوبة في مواجهة كل حي، وفي المداخل لهذه الميادين، كفيلة بمعالجة الموضوع، وكان رأيه كما يقول السيد كوسا. إن مثل هذا الأمر سوف يرعب الناس وسوف يهرعون للاحتماء ببيوتهم، كما ذكر السيد موسي شيئا آخر قال ان القذافي اصدر اوامره بممارسته وهو اقتحام بيوت الثوار، والمناوئين للدولة، والقيام باغتصاب نسائهم، فهو في رأيه أن الشعب الليبي باعتباره شعبا محافظا يؤمن بالقيم البدوية، فيما يتصل بالعرض والشرف، فإن كل ثائر يجد نفسه سيواجه مثل هذا العقاب سوف يمتنع اطلاقا عن الانضمام للثورة، لأنه يعرف قيمة العرض والشرف للعائلات الليبية، وقد قامت الاجهزة بمنتهي الكفاءة الإجرامية بتنفيذ هذه التعليمات، أي أن الشرطة وأجهزة الامن السري والكتائب العسكرية الأمنية لم تستخدم اطلاقا ما جري عليه العرف من قنابل مسيلة للدموع أو خراطيم المياه أو حتي الرصاص المطاطي، بل لم تستخدم حتي الرصاص العادي مثل رصاص البنادق والمسدسات، وإنما الرصاص الحارق الخارق، وقذائف مط أو المضاد للطائرات والدبابات والمدافع الرشاشة المزودة باشعة ليزر تقود الاطلاقات إلي اهدافها وهي رءوس وصدور الضحايا ولهذا فإن ضحايا المظاهرات كانوا يصابون في مقتل، ويسقطون أمواتا. خطأ في تقديرات الأمن كان النظام قد تهيأ لمنع المظاهرات التي تحدد لقيامها يوم 17 فبراير ولكنه فوجئ بأن الثورة بدأت قبل ذلك بيومين بسبب خطأ في التقدير من اجهزة الامن، إذ إنها استباقا للاحداث قامت هذه الاجهزة بالقبض علي المحامي الشاب فتحي تربل في بنغازي، لأنه كان المحامي الموكل اليه الدفاع عن ضحايا مجزرة أبوسليم، ورئيس جمعيتهم، بسبب وجود شقيقه وزوج أخته، ضمن هؤلاء الضحايا، وكانت هذه الاجهزة تعرف أن اهل الضحايا هم نواة التحضير للثورة المقبلة، وأرادوا فيما يبدو تحذيره وتكليفه بنقل هذا التحذير لاعضاء جماعته وأفراد عائلته، وبسبب التوتر الذي كانت عليه البلاد خشي علي حياته من عملية القبض عليه في تلك الليلة، وأرسل خبرا بما حدث فتجمع عدد من أهل ضحايا المجزرة امام بيته، وانتقلوا في مظاهرة صغيرة إلي مديرية الأمن، للمطالبة بإطلاق سراحه. واستقطبت المسيرة عددا من عابري الطريق ممن انحصرت مطالبهم في الإفراج عن المحامي الشاب، وبسبب الحالة الامنية المستنفرة بدأ التعامل مع هذه المسيرة، يأخذ طابعا استفزازيا، وكان قد انضم لهذه المسيرة زميلنا الكاتب والناشط الحقوقي ادريس المسماري، الذي تلقي في أثناء انضمامه هاتفا من صديقه الناشرمحمد هاشم، صاحب دار ميريت في القاهرة، فأبلغه أنه موجود في مظاهرة، وهناك تحرش من الامن بها، فاتصل محمد هاشم بصديق في قناة الجزيرة، يبلغه بانتقال عدوي مظاهرات الربيع العربي إلي ليبيا وبدوره اجري المذيع اتصالا بادريس المسماري ليتأكد مما يحدث، وينقل عنه تصريحا اذيع علي الهواء، يقول فيه إن أعوان الأمن وإزلام النظام، يهاجمون مظاهرة في شوارع بنغازي، وكانت تلك المكالمة المبثوثة علي الهواء، أول اشارة انطلقت مع موجات الضوء والهواء تبشر بتسانومي الربيع العربي ووصوله إلي ليبيا، قبض علي ادريس المسماري طبعا، وبدأت التداعيات التي وصلت في اليوم التالي والذي يليه إلي كل المدن الليبية، ورغم أن اجهزة القذافي مضت في تنفيذ مخططها، وفعلا نجحت في العاصمة طرابلس في منع سقوط المدينة في ايدي الثوار. وتقول التقارير إن طرابلس قدمت في يوم واحد 500 شهيد سقطوا من كل الاحياء التي انطلقت للقاء في ميدان الشهداء، ولكن إصرار الأجهزة الأمنية علي تنفيذ تعليمات العقيد جعلتهم يقتلون هذا العدد، لمنعهم بعناد وإصرار من الوصول إلي وسط المدينة، ويقابله عناد واصرار اكثر علي الوصول، وتم في اليومين الأولين اعتقال 20.000 من شبابها ممن أصبحوا في عداد المفقودين، ولكن هذه السيطرة الامنية علي طرابلس وهذه الشراسة في معاملة سكانها، وهذه النيران الكثيرة التي كلفت هؤلاء الضحايا، لم تتكرر في كل المدن، وماحدث في بنغازي التي شهدت بداية الثورة وصارت عاصمة الثوار، هو أن الأحداث تواترت بأكثر زخم وعنف، وبدأ سقوط الضحايا الذي يقابله إصرار من الناس علي مواصلة النضال، وكانوا يواجهون رصاص الدولة بصدور عارية، فقد بدأت كل المظاهرات في ليبيا سلمية، إلا أنهم ما لبثوا في بنغازي أن استولوا علي بعض السلاح من مراكز الشرطة، لكن مجمع الكتائب وقيادة الجيش كان هو معسكر الفضيل بن عمر، الذي كانت بواباته مصدر النيران التي تفتك بالمتظاهرين خاصة وانه يعترض الطريق إلي مقبرة الهواري، حيث كان يدفن الثوار شهدائهم، وكان التوتر والاحتكاكات والتحرش يزيد من حدة المواجهة فيسقط القتلي. وفي لحظة حاسمة في اليوم الثالث من مسلسل القتل، قرر رجل من ابناء بنغازي هو محمد المهدي زيو، أن يقدم نفسه فداء لمدينته، وكان الجميع يعرفونه رجلا هادئا ليس في تاريخه اي تطرف أو علاقة باي تنظيم ديني، إلا أنه ثائر، أنظم من يوم الشرارة الاولي إلي صفوف الثورة، وكان في التاسعة والأربعين من عمره يملك عائلة صغيرة من زوجة وابنتين، مرتاح ماديا وله شقة في منطقة الكيش ووظيفة في شركة نفطية، فاستأذن من زوجته طالبا منها السماح، واحتضن وقبّل ابنته وهو يودعهما، وجاء بسيارة نصف نقل، ملأها باسطوانات الغاز وببعض المواد المتفجرة، وقرر الهجوم علي أكبر بوابات معسكر الفضيل بن عمر في عملية انتحارية، وكان الثوارمستعدين للهجوم علي المعسكر من خلفه، فما ان اقتحمت السيارة البوابة وسقط الحراس قتلي اثر الانفجار الكبير، وقد تناثرت مدافعهم الرشاشة واسلحتهم، حتي داهم الثوار المعسكر لجمع ما يستطيعون جمعه من اسلحة هجموا بها علي المعسكر، ودارت معارك سقط فيها الشهداء بالعشرات، وكانت تلك بداية الثورة المسلحة ضد نظام الطاغية، وتواصلت المعارك الطاحنة بين الثوار من حاملي سلاح
المعسكر بعد الاستيلاء علي هذه القطع، وبين اهل المعسكر الذين لا يزالون يتمتروس ببعض ابنيته، وكان الحوار دائرا في معسكر الصاعقة مع اللواء عبدالفتاح يونس وزير الداخلية الذي أرسله القذافي لإخماد الثورة، فاستجاب للثوار وفي نفس الوقت ناور وداور مع القذافي ليمنعه من ضرب المتظاهرين بالطيران. قائلا له إنه مازال يسعي لإخماد الثورة بطرق أكثر يسرا من الضرب بالطيران، لأن هذا الضرب كما قال له سيؤدي إلي مئات الاف القتلي وهو ما سيجعل من الصعب الوصول لاي تفاهم أو مصالحة مع الناس، ثم اتجه بقواته إلي معسكر الفضيل بن عمر، وتم الاستيلاء علي هذا المعسكر العملاق، وبدا منذ ذلك اليوم تاسيس جيش الثورة واستقلال مدينة بنغازي التي رفعت علم الاستقلال، واعلنت انها تحررت من سيطرة القذافي وانهزمت الفلول التابعة له، وكانت مدن الشرق الاخري مثل طبرق والبيضاء والمرج ودرنة قد عرفت انتفاضات واستيلاء علي النقاط العسكرية ومراكز الشرطة وانضم جميع من تبقي من اعوان الحكومة إلي الثورة وصار الشرق كله محررا، وكان يستطيع القذافي أن يعتبره انشقاقا لشرق البلاد، لولا انه وبالتزامن مع تحقيق النصر في بنغازي، كانت المقاومة قد حققت انتصارها في عدد من المدن الكبيرة في الغرب، هي مصراتة والزاوية وزوارة والزنتان وبعض مدن الجبل الغربي مثل جادو والرجبان، إلا أن عددا من هذه المدن استطاعت كتائب القذافي افتكاكها، بعد أن حولتها إلي أنقاض مثل الزاوية وزوارة وجادو، إلا أن مدينتين احداهما شرق طرابلس هي مصراتة، استطاعت الصمود رغم حجم الدمار والضرب بالطيران، بفضل بسالة مقاتليها، كما استطاعت ذلك وبامكانيات اقل من امكانيات مصراتة مدينة الزنتان، وقد واجهت ومنذ اللحظات الاولي للثورة محاولات قوية من النظام لقمعها، إلا أن بسالة مقاتليها، وحسن توظيفهم لموقعهم في قلب الجبل، تمكنوا من الصمود. وكان القذافي قد بدأ في جلب المرتزقة بشكل مكثف كما استعان بخبرات عسكرية اسرائيلية كما تقول بعض المصادر وبسلاح من اسرائيل كما تقول مصادر اخري واستطاع تجهيز جيش في الصحراء اراد أن يستعيد به شرق البلاد وكان ذلك قبل يومين من صدور قرار مجلس الامن بحماية المدنيين الليبيين وحظر الطيران ولكن ابن القذافي سيف الإسلام هزأ من القرار وخرج للصحفيين ليقول لهم «لقد تأخر الوقت» لان الجيش الذي قام بحركة التفاف علي مواقع جيش الثوار في اجدابيا ووصل إلي مشارف بنغازي، كان يصل طوله 160 كيلو مترا من حاملات المدافع وراجمات الصواريخ وكل انواع الاسلحة الخفيفة والثقيلة والعربات المصفحة والدبابات التي يقودها المرتزقة، ويرافقها خبراء عسكريون يخططون لها لمداهمة مدن الشرق بدءا من بنغازي. وقد انتبه سكان المدينة إلي الزحف القادم، واستشعروا الخوف مما ينتظرهم من دمار، وكان القذافي في خطابه الشهير «زنقة زنقة»، قد توعد الثوار بانه سيبيدهم جميعا، ولن تأخذه بهم شفقة ولا رحمة، وسيطارهم فردا فردا ودارا دارا، وبدأ الثوار محاولاتهم لعرقلة الزحف، بان استخدموا طائرتين قديمتين صارت تعرقل الطابور بضرب مقدمته، وعمل طاقم هاتين الطيارتين باستبسال وشجاعة، وانتهي الأمر بهم شهداء اثناء سقوط هاتين الطائرتين، لكن بعد أن عرقلا قليلا مسيرة هذا الجيش الذي استعاد قوته للضرب، ودخل إلي المناطق الغربية من بنغازي وباشر تدميرها، وكما اخبرني الصديق والزميل عبدالرحمن شلقم الذي كان يدير المعركة السياسية من مكتبه في مبني الأمم المتحدة، أن هواتف البيت الابيض والاليزيه وعشرة داويننج ستريت ظلت تدق طوال الليل والنهار من طرفه وطرف معاوني ليبيا في الهيئة الأممية لدرء الكارثة، إلي أن قال إنني تلقيت مكالمة من الإليزيه تقول أبشر يا عبدالرحمن ان الرئيس سركوزي قد امر الطيران، وتنفيذا لقرار مجلس الامن، واستبقا لعمليات الناتو، بوقف الزحف علي بنغازي. وفي فرح كما قال لي، باشر نقل هذه البشري إلي رئيس المجلس الانتقالي، وإلي رئيس جيش الثوار، وإلي غيرهما من قيادات بنغازي بان الانقاذ قد وصل . يعرف القراء بقية القصة ولابد انهم يعرفون أن خسائر الحرب حسب الإحصائيات المؤكدة هي مائة الف قتيل من الجانبين الكتائب وشهداء الثوار، وهو ميراث هذه الحرب التي خاضها طاغية مجنون ضد شعبه، وسيكون ما تركوه من يتامي وثكالي وارامل وما نتج عن الحرب من الجرحي ومعاقين علي الجانبين هم مسئولية العهد الجديد الذي يحتاج إلي عملية إعادة تاهيل لكل المجتمع واعتقد أن هذه ستكون أولي المهمات، وإعادة التاهيل هذه، ليست عملية قاصرة علي ضحايا الحرب، ولكن لكل الليبيين الذين عاشوا أكثر من اربعة عقود في ظروف استثنائية، وفي جهالة ممنهجة كان هدفها هو تحريك كل النوازع الرخيصة من عنصريات وقبليات وحقد وحسد لجعل الناس يدخلون في حروب تلهيهم عن محاربة النظام. مسح آثار العدوان وهناك ما أسميه مسح اثار العدوان علي القيم وعلي البشر وعلي الحجر بل حتي علي الحيوان والنبات، فقد أزال نظام القذافي الغابات ودمر الاشجار، بجوار تدميره لمعالم أثرية، وصروح معمارية، وإغراق البلد في أبنية عشوائية، لا ترضي أي مستوي من مستويات الذوق، ولا تلبي اية حاجة من حاجات الحياة الكريمة، و لاتسجيب لاي مقياس حضاري من المقاييس التي تستخدم في تخطيط المدن وبناء مساكن البشر. ويأتي قبل تاسيس بنية تحتية حطمها القذافي، في التعليم والصحة والمواصلات والاتصالات والبيئة والعلوم، وغيرها، هناك بطبيعة الحال تصحيح المفاهيم والسلوكيات حيث بجوار ما ارتكبه من جرائم، ساهم في زرع قيم بدوية اراد توطينها المدن، وقيم عسكرية اراد توطينها في الحياة المدنية والجهاز الاداري المدني، وهو ما يجب أن يضع الليبيون المخططات لاعادة تصحيحه، وياتي طبعا في اولويات السلم السياسي تاسيس الدولة الدستورية، دولة المؤسسات والفصل بين السلطات وبناء الجهاز الاداري السليم، والحكم المحلي القائم علي الاختيار الشعبي، والاعتماد علي صناديق الاقتراع في كل مستويات الحكم، واتاحة الفرصة للأحزاب السياسية التي كانت محرمة وممنوعة بحكم المقولة التي تقول"من تحزب خان"، وتاسيس مجتمع المعرفة، وبناء مؤسسات المجتمع المدني، واتاحة الفرصة لجمعيات هذا المجتمع، لتكون شريكا في ادارة الحياة والمساهمة في صنع القرار، مع مؤسسات الحكم الرسمية، نعم لقد عرفت الحياة السياسية في ليبيا شيئا من الحياة الحزبية التي لم تعمر طويلا فقد عاشت لمدة لا تزيد علي ست سنوات منذ منتصف الاربعينات إلي حصول البلاد علي استقلالها في 24 ديسمير عام 1951 . وعمد النظام الملكي، وتنفيذا لاجندات اجنبية وجدت أن الأحزاب الوطنية ستعيق تحقيق اتفاقيات القواعد العسكرية الامريكية البريطانية، إلي الغاء الأحزاب في عام 1952، وقد سهل عليه قيام الثورة في مصر وتعاملها القاسي مع أحزاب كبيرة عريقة، وصولا إلي قفلها ومنعها، أن يقوم هو بذلك مع أحزاب صغيرة طارئة علي الحياة، كان اهمها واكثرها شعبية حزب المؤتمر الوطني بقيادة الزعيم بشير السعداوي، وهو الحزب الذي قمت وعدد من الأصدقاء بالإعلان عن اعادة احيائه، وهو ما فعلته أحزاب أخري هي الآن تحت التاسيس، صارت تنشر برامجها، وتحاول أن تستقطب جمهورا إلي صفوفها ممن يؤمنون بافكارها، ولا أدري ما أكثر التحديات خطورة التي تواجه المجتمع الليبي الجديد، وبناء دولته التي يسعي لاقامتها علي انقاض دولة القهر والاستبداد، وهناك فرحة عارمة تغمر الآن ليبيا من أقصاها إلي اقصاها، وتغمر الشعب بكل فئاته والوان اطيافه السياسية بسبب زوال عهد القذافي، باعتبار أن هذا هو اكبر انجاز تحقق لهم بعد اربعة قود ونيف من الاجرام والقهر والمهانة، ولكن ماذا بعد ذلك؟ فهو ما سيكون بالتاكيد موضع اهتمام النخب المستنيرة، والفئات والمثقفة. وأهم ما تحرص عليه هذه النخب هو استقلال القرار الليبي، وهناك خوف عبر عنه بعض الناس، من أن بعض القوي الدولية والإقليمية التي ساعدت ليبيا في معركتها ضد الطاغية، ولعبت دورا في تمكين الثوار من الانتصار عليه، قد يغريها هذا الدور بان تطالب بحصة في إدارة البلاد، وهو ما يتحسس أغلب الناس منه، بل هناك صيحات غضب وتحذير انطلقت تستنفر الشعب لليقظة لأنها أحست بأن هناك من يهم بالقيام بمثل هذا التدخل، والتحدي الثاني غير هذا التدخل، هو أصحاب التوجه الإسلامي، ولا انكار لحقيقة الدور الذي قام به أصحاب هذا التوجه الثورة، باعتباهم كانوا علي درجة من التنظيم، وكانوا يملكون الكوادر التي خرج بعضها من سجون القذافي عبر صفقات سياسية. ولكن الثورة في النهاية هي ثورة الشعب الليبي بكل اطيافه وفصائله، ولا أحد يستطيع أن يدعي احتكارا لها، أو هيمنة عليها، أو استفرادا بنتائجها، أو اعتبارها غنيمة يريد الاستحواذ عليها، فالشعب لم يقم بالثورة لاستبدل ارتهان للقذافي بارتهان لاتجاه أو لجماعة أو لمدرسة في التفكير أو لتيار سياسي أو أجندة دينية، إنه وطن الجميع، ارضه ارض الجميع وشمسه شمس الجميع، سنتقاسم جميعا نور هذه الشمس، ونتقاسم خيرات هذه الارض، ظاهرها وباطنها، ونتقاسم استنشاق هواء الوطن، بحصص متساوية، وهو ما يطالب به أهل الطلائع المستنيرة ممن لا يشاركون الإسلاميين توجهاتهم في تاسيس الدولة الدينية أو ذات المرجعية والهوية الإسلامية فالدين لله والوطن للجميع، وكما هناك في المرجعيات الدينية التاريخية الاخلاقية سيدنا ابن تيمية وسيدنا ابوهريرة رضي الله عنهما فهناك في مرجعيات العصرالحديث ومفردات مجتمع المعرفة والثقافة الرقمية سيدنا بيل جيتس وسيدنا المرحوم ستيف جوبز، وسنسعي جاهدين للمزاوجة بين هاتين المرجعيتين في ليبيا الجديدة باذن الله، فالله أيضا للجميع ولا يستطيع احد أن يدّعي احتكاره أو التحدث باسمه كما انه لم يقم بإعطاء تفويض لاحد يتصرف بالإنابة عنه كما يدّعي اهل الإسلام السياسي.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.