تسأل الفيزياء الحديثة : هل هذا الكون الذي نعرفه هو الكون ( بألف لام العهد ) أم هو أحد الأكوان المحجوبة عنا؟ سؤال لاشك في أهميته المعرفية، لكن القليلين من يربطونه بأسئلة قد تبدو أكثر عملية وأكثر إلحاحا مثل: كيف السبيل لإيجاد حلول لمشكلاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة ؟ وما جوهر تلك المشاكل؟ وما ضرورة أن نتفهم كيف نشأت وتفاقمت؟ وهل ثمة أمل في حلول ناجزة لها ؟ صفقة الأسئلة هذه قد تدعونا - قبل أن نتوجه لزيارة بيت التاريخ - أن نعرج علي " كازينو" الفلسفة المعاصرة نتناول فيه "قهوة العقل" لنتيقن ان كوننا واحد مبتداه العدمNonentity وتبعا لنظرية الكوانتم فإن هذا اللاوجود كان محتوما ً تعرّضُه لتقلبات كمية ٍ تؤدي لانبثاق ما أسمته العلوم ُ الرياضية ُ الحديثة ب "المفردة"Singularity ( لاحظ المعني ) وهي كرة مفترَضة ٌ بلا قطر ولا مكان أو زمان لها، ومع ذلك هي جمّاع كل الطاقة السالبة ونقيضها الموجب المحسوب "رياضيا ً" لرقم الصفر، فما كان عجيبا ً أن يحل بها الانفجارُ العظيمBig Bang لتولد منه قوي الجاذبية والمغناطيسية والحرارة فالسدم والنجوم والكواكب ، ومن بين الأخيرة انبري كوكبنا الأرضي يتشكل في وحدة جغرافية هي القارات والمحيطات، وفي الماء ُخلقت الحياة وانتقلت إلي اليابسة حاملة معها وحدتها البيولوجية (توليفات الكربون) وعلي سلم الأحياء تربع الإنسانُ القمة َ مؤطرَّا ً بوحدة فيسيولوجية لا غش فيها، وهي حقيقة ٌ تقتضي النظر إلي التاريخ البشري - الممثل للكون الواحد - بحسبانه هو أيضا ً وحدة واحدة لا يعكر عليها اختلاف لون أو تمايز شكل، والدليل أن جميع البشر يصلحون للتزاوج فيما بينهم، وأما التعدد الظاهر لديهم فليس أكثر من تعدد للحوادث وليس للأنماط المحددة لمسيرة بدأت بالعبودية ولابد أن تصل إلي غايتها : الحرية لكل إنسان . وبهذا الوعي " العقلاني" ذي الوحدة المعرفية نكون قد أقمنا علاقة زمالة مع وحدة التاريخ. المؤرخ الشعبي .. من يكون ؟ في تقدير كاتب هذه السطور أن النظرية الأقرب إلي تمثيل المفهوم " العقلاني" المشار إليه آنفا ً هي المادية التاريخية حيث تتيح للمؤرخ تسجيل الحوادث الكبري واستخلاص مغزاها، برؤية صافية مصدرها الواقع " المادي" الذي يتحرك فيه الناس وينتجون، يتعاونون فيه أو يستغل بعضهم بعضا ً من خلال العلاقات المتغيرة تبعا ً لتغير مواقع القوة، وهي مواقع ظلت ُتكتسب بفعل الحروب أو السلب والنهب أو حيازة واحتكار وسائل الإنتاج كالأرض والمناجم والآلات علاوة علي قوة العمل البشري ذاته سواء جاءت من عبد أو قنٍ أو أجير . وتبين تلك النظرية بجلاء كيف تنعكس حركة الواقع المادي علي عقول الناس فتنشأ المعارف والقيم والمفاهيم، وُيتفق علي الأعراف والعادات والتقاليد والأخلاق التي هي البذور الأولي للديانات والعقائد والفلسفات، وأخيرا ً تظهر الدولة ُ مثل كائن علويTranscendental كامل الأوصاف، حتي ليحتار الناسُ متسائلين: من صنعه؟ المؤرخ الشعبي يعرف بالضبط من هو صانع تلك الدولة ؟ إنها الطبقة المنتصرة اجتماعيا ً حيث تقدمها للمحكومين بوصفها كياناً محايدا ً مهمته إقرار النظام ومحو الفوضي وحماية حقوق الضعفاء ! بيد أن المؤرخ الشعبي يعرف أن ذلك وَهم ٌ لا تلغيه بعض الاستثناءات، إنما القاعدة أن الدولة مجرد جهاز توظفه الطبقة المالكة لمصلحتها ، فهي تعمد إلي استخدام قوته الخشنة : الجيش والشرطة والبيروقراطية لحماية أمنها هي بالدرجة الأولي، وتلجأ لاستخدام قوته الناعمة : القوانين ، السياسة، وسائر العناصر الأيديولوجية بما فيها الأديان والفلسفات لضمان استرخاء المحكومين ورضاهم بالحرمان من الحقوق المثبتة للطبقات مالكة وسائل الإنتاج. الدولة من أين وإلي أين؟ ومع ذلك فالدولة - شأن كل جهاز - ليست حكرا ً أبدياً علي طبقة بعينها حتي ولو كانت مالكة ، فالنضال الذي يسعي به الشعب ليشارك في الحكم؛ يمكن أن يخضع الدولة لإرادته جزئيا ً، فتقر مبدأ الضرائب المتصاعدة مع وضع حد أدني وحد أقصي للمرتبات والأجور، وتلتزم الحياد التام بين أصحاب الأديان والعقائد، وتقنن الحقوق المدنية كالإضراب والتظاهر وحق الطبقات الشعبية في تكوين المنظمات والنقابات والأحزاب دون وصاية خارجية، وقد تدعم الدولة التعليم والصحة بل والترفيه...الخ وتلك هي غاية الليبرالية السياسية، لكن الليبرالية السياسية لا تمثل نهاية المطاف بل هي تمهد لما بعدها ، أعني خضوع الدولة التام للشعب (الديمقراطية الحقة) الذي يطالب بالعدل الكامل في توزيع ناتج الثروة القومية ومحق كل أشكال الاستغلال الطبقي، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بانتصار الاشتراكية (وهي بالقطع ليست السوفييتية الروسية أو النازية الألمانية أو الناصرية العربية) وإنما هي بناء ُيشيد علي غير نموذج سابق التجهيز، وربما تشارك في تصميمه اليوم الثورة ُ العالمية التي أضحت ملامحها تلمع في الآفاق، مقابل أفول نجم الرأسمالية تحت وطأة أزماتها المتلاحقة . ذلك كله معروف ومطروح بقوة علي أجندة الفكر اليساري الذي بدأ رحلة تعافيه . فهل يمكن لمؤرخ الشعب إلا أن يكون يساريا ؟ تعديل النظرية إذا كنا قد تدبرنا بإخلاص مبدأ وحدة التاريخ البشري، فما من شك في أننا محتاجون إلي تعديلات في صلب المفاهيم التي درجنا عليها، وهي في الحقيقة مفاهيم ُ تسللت إلينا كانعكاس لوجودنا في واقع سيطرت عليه ماديا ً وثقافيا ً تيارات ُ القومية البرجوازية : أولها قبول بعضنا لنظرية المركزية الأوروبية بحسبانها الطريق الوحيد لتحديث واقعنا اقتصادا ً إنتاجيا ً وسياسة ليبرالية وثقافة علمانية ، دون التفات لكونها نظرية تؤبد تبعيتنا للغرب، وترجح عوامل التقليد علي حساب الابتكار والإبداع. وثاني تلك المفاهيم الاحتجاج بخصوصيتنا كمجتمع إسلامي لا حاجة به للتأثر بالعالم الغربي، غير مدركين أنه مفهوم يحرمنا من التفاعل مع معطيات الحضارة الإنسانية، بينما الغرب نفسه لم يتحرج من التأثر بنا يوم كنا متقدمين عنه! ويأتي ثالث المفاهيم في قبول بعضنا لتنظيرة النمط الآسيوي التي تعزو جمود مجتمعاتنا وعجزها عن التطور إلي مورفولوجية بيئية نهرية تخلق وترسخ دولة الطغيان "الشرقي"! وكان أولي بنا الاستماع ل "سمير أمين" الذي رأي بحق أن التاريخ لصيق بالجغرافيا البشرية، ومن ثم فقد صك مصطلحه المائز " النمط الخراجي" Tribute المؤسس علي الاقتصاد الريعي، يغطي به دولا ً عديدة في الغرب كما في الشرق طالما تأخرت عن اللحاق بقطار الرأسمالية الحديثة، وبذا يكون النمط ُ الخراجي (كصنيعةٍ للبشر وليس الطبيعة) هو المسئول عن ترسيخ بنية الطغيان والاستبداد، بوصفه العنصر المشكّل لتاريخ العالم في المناطق التي تعيش عصر ما قبل الحداثة Pre-modernism لا بوصفه هوية لازمة بل حالة مؤقتة، وهو ما يتفق مع رؤية أندريه جوندر فرانك صاحب كتاب " الشرق يصعد ثانية". إذن علي مؤرخنا الشعبي ألا يعتبر الحداثة "أقنوما ً" مستقلا بذاته تختص بها أوروبا ، فالحداثة Modernity حين ينظر إليها المرءُ باعتبارها نزعة ً عقلية، وليست محض مذهب Modernism أوروبي، لا غرو سيراها تتجلي في المشترك الإنساني لدي جميع الأمم والشعوب في الماضي أو في الحاضر. وما من شك في أن مبدأ المراجعة والنقد الذاتي ليعد جزءاً لا يتجزأ من هذه النزعة العقلية البناءة، وانظر إلي ما كتبه الفقيه عماد الدين الأصفهاني في القرن 13 تجسيدا ً لهذا المبدأ النقدي " لا يكتُب أحدٌ كِتَاباً في ىَومِهِ إِلاَ قَالَ في غَدِهِ: لَو غُير هَذا لكَانَ أحسَن، ولَو زيدَ هَذا لكَان يستحسن، وَلو قُدَمَ هَذا لكَانَ أفضل، وَلو تُرِكَ هَذا لكَان أجمل، وَهَذا مِنْ أعظَمِ العِبَر، وَهُوَ دَليلُ استيلاَءِ النَقصِ عَلي جُمّلَةِ البَشر." ذلك غيض من فيض ٍ موجود بالإمكان Entity Potential في المخزون الثقافي لمؤرخ الشعب، والمنتظر أن ينقله صاحبه إلي حالة الوجود بالفعل، في مواكبة منه للتاريخ الذي تصنعه الشعوب اليوم وغدا ً؛ بحسبان التاريخ ليس مجرد رصد لأحداث الماضي وإنما هو أيضا ً الرؤية الثاقبة لمكونات الحاضر، والمنظار المكبر الكاشف عن ملامح المستقبل الواعد بوحدة الجنس البشري في منظومة اشتراكية عالمية تفتح الفضاء للحرية المشتهاة.