عن القمص سرجيوس.. خطيب الثورة مثل أي مشكلة تبدأ وتنتهي بين المسلم والمسيحي ولا أحد يدري لما بدأ ولما انتهت رغم كمية الدم المراقة من الطرفين وأصبحت العلاقة بينهما علاقة يشوبها الغموض والتداخل العشوائي رغم أن الحقيقة التاريخية تؤكد أن العلاقة التاريخية الموجدة بين المسلم والمسيحي هي علاقة تاريخية منذ زمن بعيد للغاية فالمصري بدأ فرعونياً ثم مسيحياً ثم مسلماً إذن لا يمكن الفصل بين الثلاثة لأن الثلاثة يكونون وطناً اسمه مصر فمن هنا نعرج عن مسيرة سرجيوس لكن قبل أن نقرأ تلك السيرة يجب علينا أن ننظر إلي القوم الذين علي أتم الاستعداد للتضحية بهذا الوطن بعكس آخرين ضحوا بكل شيء من أجل إيجاد وطن يلمهم ثم يجدون قيمة من خلال هذا الوطن المغتصب والمتخيل مثل باقي الأمم. أنني هنا أتذكر أن اليهود الذين نجحوا في أن يطوعوا كل شيء بداية من التوراة إلي تراثهم القومي «الذي احتوته كتب الحاخامات» في أن يجدوا وطنا لهم ويفعلوا كل ما هو غير أو شرعي للمحافظة علي دولة اخترعوها بعكسنا نحن الذين نعمل جاهدين علي إغراق السفينة التي تحملنا وتنجو بنا من مهالك بحر الظلمات الذي يجرنا إليه نفر من أهل بلدنا - بعكس أناس عاشوا في هذا الوطن من أجل بلدهم وأهل بلدهم، إنه سرجيوس الدليل الدامغ علي عشق هذا الوطن الذي هو عبارة نهر وناس ودين. لأنه لو لم يكن النهر فلن يكون فيه اناس ولو لم يكن هناك إناس لما وجد دين فقد عشق سرجيوس هذه المعادلة التي تتكون من نهر + ناس + دين = مصر. - فلو كان يوجد بيننا الآن سرجيوس لما وجدنا الفتنة ولوجدنا الكل يحترم القانون ومن ثم يحترم مصر. سرجيوس الذي كان قسيسا.. لأب قسيس لجد قسيس.. وقد تعلم في المدرسة «الإكليريكية» بالقاهرة.. وفي تلك المدرسة.. بدأ «سرجيوس» يمارس هوايته في الدعوي للاصلاح.. حال المدرسة وقد تحمس له زملاؤه الذين عقدوا اجتماعا عاما.. وقد انتموا إلي قرارات حملها سرجيوس - إلي رجال المدرسة .. التي رفضت جميعا مع تأنيب شديد اللهجة لحامل المطالب سرجيوس - فعاد سرجيوس ودع الطلبة للاضراب وهكذا يكون أول اضراب وقع في تاريخ مصر كان في 1902. وبعد هذا الاضراب بأقل من عام وقع اضراب عمال السجاير والذي يؤرخ به لحركات الاضراب العمالي في مصر. وفي تلك الأثناء أخذ سرجيوس - يكتب مقالات وينشرها في الصحف المصرية شارحا فيها اسباب الإضراب في المدرسة «الاكليريكية» .. ونتيجة لهذه المقالات انهالت البرقيات علي المدرسة تطالب علي تحقيق مطالبنا .. ونتيجة لتلك البرقيات والاحتجاجات وسويت المسألة .. وتحقق ما كانت تطالب به. ويتخرج سرجيوس واراد أن يعمل واعظا عاديا - لكن رجال الكنيسة رشحوه لكي يكون قسيسا وقد كان قسيسا في ملوي وبدأت رغبة سرجيوس في الاصلاح يجهر بها.. ونظرت الكنيسة إلي تلك الآراء علي أنها اجتراء عليها فاعتزل سرجيوس خدمة الكنيسة . وبقي واعظا عاديا. ومن هنا كان اي مكان يذهب إليه «سرجيوس» كان يلقي تأييدا وحماسا شديدا من كل الناس. والمعارضة والسخط كانا من رجال الكنيسة ويسافر سرجيوس إلي السودان ويقوم بجولة في انحاء السودان وكان سفره هذا بعد اغتيال بطرس غالي - فساءت العلاقات بين المسلمين والاقباط في السودان. وكان قد دعي ليلقي محاضرة في النادي المصري الذي انقسم اعضاؤه علي انفسهم بسبب مصرع بطرس غالي وتكون ناد آخر تحت اسم «المكتبة القبطية» ودعي سرجيوس ليلقي محاضرة فيه وكان عنوان المحاضرة «تفوق دانيال» ولما دخل سرجيوس القاعة ووجد أن الحضور يغلب عليه الاسلام بمعني أن الحضور اعظمه من المسلمين فبسرعة غىّر سرجيوس المحاضرة إلي «عيشوا بسلام» وكانت محاضرة ذات اثر كبير وعظيم في نفوس الناس وعملت علي القضاء علي الخلاف الذي نشب بين المسلمين والمسيحيين. وفي السودان أنشأ سرجيوس .. مجلته "المنارة المصرية" .. وكانت تلك المجلة المتنفس لآراء وأقوال وأحلام ورغبات سرجيوس وقد استدعاه «مسترمور» مدير الخرطوم وقال له - «الحاكم يطلب منك أن ترحل في أسرع وقت أي خلال أربع وعشرون ساعة». وبعد حوار طويل دار بين مسترمور وسرجيوس .. حول السبب في طلب رحيله عن السودان .. قال مسترمور في آخر الحوار .. «أنت بطبعك تميل إلي الحرية ونحن هنا في هذه البلاد نحكم بالسيف ولهذا فإن طبيعتك لا تلائمنا وسوف نتعبك وتتعبنا..» ويعود «سرجيوس» إلي مصر في سنة 1915 أوقف حياته علي الدراسة والوعظ والعبادة .. حتي سمع وهو في بيته هتافا عاليا وضجيجا سنة 1919 فخرج إلي الشارع ليعرف ما الأمر... «يحيا سعد .. يحيا سعد .. يحيا سعد.. يحيا الاستقلال» ولما سأل عن السبب وعرف أن سعد باشا اعتقل وهو يطالب بالاستقلال .. هنا تجددت المياه القديمة .. والموهبة التي توقفت .. وصعدت الدماء إلي رأسه فأسرع إلي الشارع وانضم للمتظاهرين وقد انتهت المظاهرة عند الأزهر الشريف رمانة الاحساس الوطني عند المصري. كان سرجيوس يخطب في الناس بعد انقضاء الصلوات الخمس .. وكان قبل أن يبدأ خطبته يتذكر كلمات الانجليزي الذي طردة من السودان ويقول لنفسه «من يكره الحرية أكرهه ومن يمارسها أحاربه» ولم يترك سرجيوس - مسجدا أو كنيسة الا وخطب فيه لتعبئة الشعور الوطني ضد المحتل. وقد اصطحب فتح الله بركات في جولة طويلة بين المدن والقري والكفور .. من أجل جمع التبرعات للوفد المصري وكان فتح الله بركات يحمل شنطة كبيرة .. كحقيبة القومسيونجية. ويفتحها امام المستمعين واذا بها تمتلئ في لحظات قليلة بالأموال. يحيا الإنجليز وفي أحد الأيام كان سوف يخطب جمع حاشد من المصريين في ميدان الأوبرا وهو حشد كان يزيد علي أكثر من 20 ألفا .. وقف فيهم سرجيوس ليبدأ خطبته بقوله.. «اهتفوا معي .. يحيا الانجليز» فيبهت هذا الجمع الحاشد وجحظت عيونهم وانفرجت أفواهم علي اخرها ولم ينطقوا بشيء فعاد سرجيوس ليقول «يحيا الانجليز» فزادت دهشة الجميع الحاشد .. فيطلب منهم سرجيوس أن يهتفوا وراءه «يحيا الانجليز» فهتفوا «يحيا الانجليز .. يحيا الانجليز» فيسترد سرجيوس خطبا «يحيا الانجليز الذين استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجورهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة» وصفقوا تصفيقا حادا يصم الأذن ومازال صداه مستمرا إلي الآن. مرة أخري كان حاضرا في السرادق الضخم الذي اقيم لسعد باشا آخر تكريما بعد عودته من المنفي .. فأخذت الناس الحاضرة.. وتنادي بكل عزمها.. سرجيوس سرجيوس .. سرجيوس.. فوقف سعد باشا قائلا فليسمعنا خطيب الثورة كلمته فصمت الجميع، وبدأ سرجيوس خطبته قائلا .. «والله انك لمجنون يا سعد..» فبهت الحضور.. «.. والله انك لمجنون يا سعد اذ تقوم علي دولة عظمي خرجت منتصرة من حرب عظمي وتملك كل شيء ولا تملك أنت شيئا ثم تنتصر عليها ...» وفي نهاية الخطاب وقف سعد باشا واحتضن سرجيوس وقال «مجنون والله يا سرجيوس». فانفجرت الجماهير بالهتاف والتصفيق الحار! «من يريد الاستزادة يمكنه أن يرجع إلي كتاب سبع بشوات وصور أخري الصادر ضمن سلسة الكتاب الذهبي عام 1971 - للكاتب محمد عودة».