كتبت هذا المقال قبل وفاة هذا النجم بأسابيع، وتمنيت أن يقرأه ليعرف أن هناك كثيرين يقدرون قيمته وعطاءه الفني ، لقد أصابتني حالة من الاستياء عند قراءتي لأكثر من مقال عن هذا العرض ولم يعط النقاد لهذا الفنان حقه، كنت أزعم أنه لم يقرأها، وكنت أقول لنفسي أنه لا يعرفون ماذا يعني استمرار العطاء أكثر من 36 عاماُ، ولا يعرفون معني الوقوف علي خشبة المسرح في هذه السن، إنه في تلك الحالة يكون رمزاً، ويكفي أن حضوره يشع علي من حوله حتي ولو كان ذلك علي فترات متقطعة، فالنقاد الموضوعيون عند تناولهم النقدي لآي عمل فني عليهم عدم التجاهل لتاريخ المبدع ومسيرته، تحية إلي روح هذا الفنان الكبير عمر الحريري الذي رحل عن عالمنا منذ أيام، والذي ظل يمارس الفن ولم يمتنع أو ينقطع عنه حتي آخر أيامه، وإليكم المقال الذي كتبته عن آخر عرض شارك فيه ... علي عكس ما اتبع في كتابتي النقدية أبدأ بالحديث عن نجم العرض قبل المخرج أو المؤلف، ذلك لأنه نجم له مكانة خاصة لدي الفنانين وجمهور الفن، نجم سجله الحافل بالإنجازات يدفعنا جبراً لا اختياراً للتوقف أمامه قبل الخوض في التناول النقدي لهذا العرض المسرحي الذي نحن بصدده، إنه النجم "عمر الحريري" الذي كان مولده عقب نشأة السينما المصرية بعام واحد، وعاصر الرواد وتتلمذ علي أياديهم، وكان رفيق درب الفنان الراحل شكري سرحان منذ أن تخرجا معاً من المعهد العالي للتمثيل عام 1947، بدأ بعدها مباشرة عمله بالمسرح القومي ليلتفت إليه زكي طليمات فيضمه لفرقته، ويعجب به يوسف وهبي فيتيح له فرصة في مسرحيته " راسبوتين " وكذالك يختاره لدور في فيلم "الأفوكاتو مديحة" عام 1950، ويعمل مع عمالقة جيل الرواد لينطلق بعدها مع نجوم الجيل التالي، سرحان ومظهر وأباظة والشناوي ومن بعدهم مع جيل الوسط محمود ياسين ونور الشريف وحسين فهمي وعادل إمام، وانتهاء بأجيال شابة معاصرة يواصل الحريري الذي تجاوز ال 85 عاماً قضي 66 منها في الحقل الفني رسالته التي ظل خلالها مثالاً يحتذي به ليسطر لنفسه سجل حافل بإبداعات فنية متنوعة أثري بها الساحة الفنية بين مسرح وسينما وإذاعة وتليفزيون مقدماً أعمالاً تجاوزت ال 180 فيلماً و87 مسلسلاً تليفزيونياً و70 مسلسلاً إذاعياً ونحو 34 عرضاً مسرحياً أغليها حقق نجاحاً باهراً ومنها ما يعتبره البعض علامات في تاريخ الدراما . بعد تلك المسيرة يقرر الحريري الوقوف علي مسرح عبد المنعم مدبولي ليقدم مع فرقة المسرح القومي للأطفال مسرحية "حديقة الأذكياء" لتكون التجربة الأولي له مع الأطفال طوال مسيرته، وهي من تأليف وإخراج الناقد والكاتب صلاح الحلبي خريج المعهد العالي للفنون المسرحية دفعة 1996 قسم الدراما والنقد، و"حديقة الأذكياء"هي التجربة الأولي في مسيرة الحلبي والتي أتيحت له بعد عمله سنوات مع الفرقة وليؤكد من خلالها مدي استيعابه لطبيعة مسرح الطفل ووعيه كمؤلف وكمخرج بطبيعة واحتياجات المرحلة السنية التي يتوجه بعرضه لها، ويوفق في توليف مجموعة جيدة من عناصر العرض " شاعر، ملحن، ديكوريست، مصممة ملابس،مصمم استعراض" كذلك في مجموعة منسجمة من الممثلين الحاملين لرسالة العرض لينجح في تقديم عرضاً جيداً محكماً يتميز بالبساطة مناسباً للأطفال تحت 8 سنوات . تقييم الأفكار يبدأ العرض باستعراض بسيط بغرض تهيئة أطفال الصالة للتواصل مع الحكاية التي سيتم عرضها" يلا يا أصحاب؛ افرحوا وارقصوا/ غنوا وفرفشوا؛ اسمعوا ركزوا/ علشان تعرفوا وكمان تكسبوا/ حكايتنا اللي أجمل حكايات"، ثم يستغل الاستعراض في تقديم الشخصيات المشاركة بدءاً بالنحلة ثم بلبلة ف "الجمل، الأسد، الحمار، القط، الفأر" ممهداً لتقديم عم حكيم "عمر الحريري" الذي يرحبون به "أهلاً أهلاً عم حكيم" وليتواصل معهم مستفسراٌ عن استعدادهم كي يبدأ الحكاية "يا تري جاهزين ؟" وليؤكدون له ذلك فيبدأ مباشرة إدخالنا الحكاية "هقولكم مسابقة عظيمة لحديقتكم .. فكرة تجعل الحديقة أحلي حديقة" ثم يقوم بإحاطتهم بأن هناك لجنة ستأتي لتقييم الأفكار التي تقدمها الحيوانات لتقف علي أفضل فكرة من الممكن وأن تفيد الحديقة وتجعلها أفضل حدائق الدنيا كل هذا من خلال الاستعراض الأول بعد ذلك تبدأ الحيوانات في التنافس فيما بينها، كل منها يبحث في فكرة من أجل الفوز بالجائزة، فجاءوا بأفكار تتعلق بتنمية وبناء الإنسان، منها ما يهدف إلي التنظيم ومنها ما يهدف إلي التثقيف والتعليم، وكذلك إلي الصحة والتربية الرياضية، وأيضاً إلي الفنون من موسيقي وغناء ترقي بحس الإنسان وذوقه العام، كانت الأفكار رائعة، ولكن الثعلب الذي كان يتابعهم يعرف بالأمر ويقرر بدوره أن يفوز بالجائزة، ولكنه لا يفكر، بل يسعي لإفساد أفكارهم والسطو عليها ليستفيد هو منها مستخدماً في ذلك الحيلة وساعياً لتنشيط الغيرة والأحقاد بين الحيوانات التي ينجح في صنع حالة من التنافر بينهم، ولكن القط يتنبه لحيل الثعلب ومقصده فيقرر التصالح مع الفأر من أجل صالح الحديقة ثم يقوم بإعلام باقي الحيوانات التي تقوم بفضح الثعلب وتطالب بطرده ولكنه يعتذر ويتوسل لهم فيتوسط عم حكيم له وينبههم إلي أنهم أخطأوا أيضاً حين فكر كل منهم بأنانية من أجل المصلحة الخاصة والفوز بالجائزة لا من أجل المصلحة العامة والفوز للحديقة، والفكرة هنا واضحة، فهي تدعو إلي الاتحاد أو التوحد من أجل المجموع أو من أجل أن تكون الحديقة متميزة.. كسر الثوابت أول ما انتبهت إليه أن المخرج / المؤلف لم يحاول كسر الثوابت الموجودة لدينا عن الحيوانات، فالحمار غبي بطيء التفكير، والجمل سفينة الصحراء رصين، والأسد الملك زعيم آمر، والثعلب ماكر، وكذا حافظ علي العلاقة المعروفة بين كل من القط والفأر، وهي وان كنت أتحفظ عليها باعتبارها ثوابت علينا ألا نسعي لترسيخها إلا أن ذلك ربما يفيد من ناحية التركيز علي الفكرة وعدم تشتيت الطفل المتلقي، ومن الملاحظات أن العرض أخَّر تقديم شخصية الثعلب و لا أميل لذلك التأخير إذ أن الثعلب شخصية مثلها مثل باقي حيوانات الغابة، وأن الحكاية تبدأ بعد دخول عم حكيم ولا أري مانعاً من أن يشارك في الاستعراض وأن يسمع عن المسابقة معهم ثم يخرج ويبدأ في الكشف عن نواياه في مشهد تالي ! وأري أيضاً أن مخرج العرض قد وقع في خطأ بأن جعل مؤدي شخصية الثعلب يخلع ماسك الثعلب ليتنكر بقناع قرد، وكان عليه أن يرتدي القناع علي ماسك الثعلب ذاته وهذا أمر منطقي إضافة إلي عدم إحداث لبس لدي الطفل مثلما حدث لبس لدىَّ . الديكور جاء جمالياً متوازناً مزركشاُ ألوانه الزاهية تضفي بهجة علي الطفل وهذا يحسب ل «مؤمن ونس» حيث ان ذلك من الأمور المهمة المطلوبة في مسرحيات الأطفال إلا أن تصميم الديكور في حد ذاته لم يكن جيداً ولا يخدم العرض فلم يتجاوز حد المسميات "بيت القط" علي اليمين و "بيت الفأر" مواجهاً له في اليسار و "بيت الثعلب" الذي كان علي هيئة شجرة جميلة ..! في صدر المنظر، فلم يكن به مساحة من الخيال أو الحيوية، وعلي العكس تفوق المصمم في ماسكات العرائس تصميماً وتنفيذاً فكانت انسيابية مرنة ليست حادة صادمة، وكذالك ألوانها كانت مبهجة بما يساعد علي خلق الألفة بينها وبين المشاهد، وقد تميزت أزياء فاتن مطر بما يساعد علي الألفة كذلك فكانت والعرائس من أهم إيجابيات العرض . تنوع مستويات وقد اتفقت أغاني عبده الزراع وصلاح الحلبي أيضاً مع نفس نهج العرض حيث اعتمدت علي مفردات قريبة للطفل تميزت بالبساطة والجمل القصيرة إضافة إلي أنها جاءت مكملة للدراما فلم تكن عبئا عليها وعلي سبيل المثال نجد في الأغنية الأولي تمهيداً للمسرحية وتهيئة للجمهور وتقديم للشخصيات ثم البدء في الحكاية، وتميزت الموسيقي والألحان ل "وائل عوض" بإيقاعها الحيوي وأغلبها في سلم "المينير" الموسيقي مع تنقل المؤلف بين مقامي "الكرد" و"النهاوند" وقد أتاح النص للألحان التنوع بين الحوار الدرامي المغني وبين الكلمات الشعرية المغناة، وكذلك بين الأداء الرستتيف للحوار وبين الأداء التمثيلي وهذا التنوع يعمل تنوع مستويات التلقي . أيضاً تنوعت بين الطويلة "8 دقائق الافتتاحية" والقصيرة "دقيقة حنكش بكش"ومن الأغنيات التي اتفقت كلماتها وموسيقاها والمرحلة السنية الموجه لعا العرض أّذكر تلك التي جاءت علي لسان الحمار "أبجد هوز حط كلمون/ نفسي أكون أنا منسجمون/ مع أصحابي في كل مكان/ ولا حدش مرَّة يقولي مبلم" وان ذكرت سلفاً أن البساطة كانت إحدي السمات العرض التي ميزت كل عناصره إلا أنها في حالة الاستعراضات لا تكون تحسب عليها، حيث لجأ فاروق جعفر لها وزادها تلقائية، وان تجاوزنا هذا إلا أنه فقد كان عليه الاهتمام بالتشكيلات والجمل الحركية القليلة، وهذا لا يمنعنا من الإشادة بأداء الراقصين الذي اتسم بالمرونة وسلاسة الأداء . مساحة للاجتهاد وأوضح أن أهم ما نجح فيه مخرج المسرحية هو إتاحة مساحة الاجتهاد للممثلين في أدائهم للشخصية بما ساعد علي حب كل ممثل للشخصية التي يؤديها بما أتاح لكل منهم الاجتهاد في تكوين ملامح وسمات خاصة أو سكة أداء تميز كل منها عه الأخري فلا تبدو متشابهة، وكانت البطولة للفريق ككل، آلاء المصري "بلبلة"، هبة علي "النحلة" اللتان تميزتا معاً في سمة مهمة ألا وهي التلقائية التي تعد أقرب المفاتيح للنفاذ إلي قلب الطفل، ومعهما كان فريق العمل الذي نجح المخرج في اختياره بعناية لما تميزوا به جميعاً من قبول وبساطة في الأداء فأجادوا جميعاً، محمد سلامة "الأسد"، خالد نجيب "القط"، محسن العزب "الجمل"، أشرف الشرقاوي "الحمار"، والقزم محمود الصغير "الفأر" في أجمل أدواره، ومعهم منصور عبد القادر الذي تحمل قدر كبير من تحكمه في إيقاع العرض بحكم مساحة دوره "الثعلب"، ونختتم بالنجم عمر الحريري الذي أكسب الجميع الثقة بوجوده إلي جوارهم وأضفي بنجوميته بريق خاص علي العرض، التحية والتقدير لجميع المشاركين في العرض في مروراً ب أحمد شحاتة المخرج المنفذ ولفرقة المسرح القومي للطفل ومديرها الفنانة عزة لبيب. المقال مكتوب قبل رحيل الفنان الكبير عن دنيانا متأثرا بالمرض اللعين