ما من أسرة مالكة في تاريخ الإنسانية أوحت إلي الأدباء والشعراء والموسيقيين بكثافة مؤلفاتهم التي تدور حول ملوكها وأمرائها وحكايات الطموح والحب والخيانة والمؤامرات والتضحيات التي أحاطت بحياتهم ومحاولاتهم الدائبة للاحتفاظ بالسلطة وكراسي الحكم.. كعائلة وندسور الإنجليزية التي حكمت انجلترا منذ القرن الثالث عشر وحتي اليوم. حكايات ملوك وندسور وملكاتها كانت النبع الدائم لكتاب الدراما منذ عصر إليزابيث الأولي «العصر الذهبي لانجلترا» وحتي هذه اللحظة وما علينا إلا أن نذكر مسرحيات شكسبير ورفاقه في ذلك العهد والتي لم تترك ملكا أو حدثا مهما وإلا عبرت عنه شعرا أو مسرحية أو لوحة أو أغنية. ولما كانت حياة هذه الأسرة مليئة بالأحداث الدموية والعاطفية فإنها كانت نبعا حقيقيا يستقي منه الفن بكل فروعه مواضيعه وأحداثه. مآس وملاحم الأوبرا كان لها نصيب كبير في التعبير عن مأسي وملاحم هذه الأسرة شأنها شأن المسرح .. والسينما بعد ذلك التي لم تترك ملكا أو حدثا مهما في تاريخ أسرة وندسور إلا وعبرت عنه بفيلم كبير أو بأداء مذهل وآخر العنقود في هذا المجال فيلم «خطيئة الملك» الذي حاز علي جوائز أوسكار عديدة، ويروي قصة ارتقاء چورج السادس عرش انجلترا بعد تنازل أخيه إدوارد بسبب حبه لأرملة أمريكية فترك العرش من أجل عينيها. ومن قبله جاءت أفلام كثيرة عن حياة إليزابيث الأولي وحياة ريتشارد الثالث وثورة كرمويل وجريمة اغتيال توماس مور في الكاتدرائية وغزو هنري الرابع لفرنسا والمؤامرة التي أطاحت بعرش ورأس ملكة اسكتلندا ماري ستيوارت التي أرادت أن تنافس إليزابيت الأولي علي عرش انجلترا. الأوبرا وخصوصا الأوبرا الإيطالية وجدت في أحداث أسرة وندسور الدموية مادة مدهشة لكتابة ألحان ومواقف يغلب عليها أحيانا الطابع الميلودرامي الذي يعشقه المؤلفون الإيطاليون .. وهكذا جاء فيردي ومن بعده دنيوزيتي وسواهما من كبار الموسيقيين يستقون من التاريخ الإنجليزي مادتهم الإبداعية. وهاهي أوبرا المتروبوليتان الأمريكية تبدأ موسمها الأوبرالي الجديد بتقديم رائعة دنيوزيتي «آنا بولينا» كافتتاح كبير لعروضها العالمية التي تبثها في ارجاء العالم عن طريق القمر الصناعي ومصر واحدة من عشرين دولة مستفيدة من هذا العرض المدهش الذي يتيح لجمهور القاهرة متابعة هذه العروض الأوبرالية المهمة المنقولة مباشرة من نيويورك وهم علي مقاعدهم في أوبرا القاهرة. الزوجة الثانية «آنا بولينا» تروي مأساة الزوجة الثانية للملك هنري الثامن الذي حول انجلترا من الكاثوليكية وسطوة الكنيسة البابابوية إلي بلد ارثوذكسي كي يتسني له طلاق زوجته الأميرة الإسبانية «كاترين أدن أراجون» التي رفض بابا روما تطليقه منها لكي يتمكن من الزواج بامرأة نبيلة أحبها هي «آنا بولينا» وجعلها تهجر الرجل الذي أحبته وكانت مقسومة له وهو اللورد ريتشارد بيرس .. أصر الملك علي الاقتران بها وطمعت هي في العرش والسلطة فتخلت عن حبيبها في سبيل التاج الموعود واضطر الملك إلي نفي العاشق من البلاد كي يخلو له الجو تماما. لكن ما إن تمضي عدة سنوات حتي يشعر الملك بالسأم من زوجته الجديدة وينصرف عنها إلي عشق وصيفتها الأولي «جان سايمور» لكن ما العمل الآن وكيف يمكن التخلص من «بولينا» كي يستطيع الزواج بسايمور التي أصرت علي ألا تقوم بينهما أية علاقة خارج الزواج. ويدبر الملك مؤامرة دنيئة يستدعي فيها بيرس من منفاه ويسهل لقاءه بحبيته القديمة لكي يتهمها بعد ذلك بالزني ويحبك مؤامرته بشهود مزيفين لكي يقدمها للمحاكمة ويحكم عليها بالإعدام. وبذلك تكون آنا بولينا أول ملكة في تاريخ انجلترا يحكم عليها بالموت بقطع رأسها قبل أن تلقي ملكات غيرها كماري انطوانيت وسواها هذا المصير الفاجع. براءة وطهارة قصة آنا بولينا قدمت أكثر من مرة ومن أكير من وجهة نظر ولكن دنيوزيتي الإيطالي وضع نفسه منذ البداية ومن خلال الفصل الأول في جانب «الملكة» وأصر علي تأكيد براءتها وطهارتها مدينا الملك ومؤامرته وشبقه الجنسي. في الفصل الأول نري سايمور تؤنب نفسها علي خيانة ملكتها التي تثق بها ثم نراها مع الملك في مخدعها ليلا تتمايل عليه تمايل الأنثي الداهية مستغلة ضعفه تجاهها لكي يتزوجها ويطلق آنا بولينا التي نراها خلال هذا الفصل بائسة حزينة تحاول بشتي الطرق استمالة زوجها الملك الذي انصرف عنها تماما. وتبدأ خيوط المؤامرة بالوضوح خلال حفل صيد نري فيه شقيق آنا بولينا وقد اصطحب معه بيرس ليقابل الملكة وليؤكد لها أنه مازال علي حبه لها وأنه لم ينساها قط ولكن آنا بولينا رغم ضعفها تجاهه تحاول مقاومة عواطفها وصده عنها دون أن تدرك أن زوجها الملك يراقب كل شيء ويخطط لمؤامرة دنيئة ستوقع بالملكة في الفخ الذي ينصبه لها. وفي الجزء الثاني من الأوبرا والذي يدور ليلا أمام مخادع الملكة نكتشف أن المغني الشاب الذي يعمل لحساب الملكة واقع في حبها وقد اختطف صورة صغيرة لها يضعها فوق صوره ويشهد هذا العاشق الصغير الخائب لقاء ثانيا دبره أيضا شقيق آنا بينها وبين بيرس في مشهد من أجمل وأروع مشاهد هذه الأوبرا غناء وأداء وقوة وتصميما. وبالطبع يفاجئ الملك العاشقين ويطلب من نبلاء القصر ووصيفاته الحضور ومشاهدة واقعة الزنا وإحالة الملكة إلي المحاكمة. ورغم توسلات آنا للمالك أن يحافظ علي سمعتها في سبيل مستقبل ابنتها منه «الملكة إليزابيث» إلا أن الملك يصر علي اندلاع الفضيحة ويأتي المشهد الرائع بين الملكة ووصيفتها الخائنة التي تحاول اقناعها بالاعتراف بواقعة الزني كي تنقذ حياتها ولكن آنا تصر علي براءتها وعلي رفض الاذعان لشروط الملك المجحفة. حكم الإعدام وفي المشهد الأخير والذي تأكد فيه حكم الإعدام علي المتهمين الأربعة «الملكة وشقيقها وعشيقها ووصيفتها» تنتاب حالة من الهذيان والجنون آنا قبل أن تستسلم لقدرها الأليم في مشهد موسيقي وصلت فيه أنغام دنيوزيتي إلي الروح في تعبيرها وتأثيرها القوي، خصوصا عندما تختلط أجراس الاحتفال بزواج الملك الجديد بتأوهات آنا التي تواجه الموت! إعداد أوبرالي شديد الثراء والفخامة خصوصا في الأزياء والديكور الذي جاء صورة طبق الأصل من الواقع التاريخي مضافا إليه لمسة جمالية من الألوان خارقة للعادة ومن خلال اضاءة تذكرنا بلوحات المدرسة الهولندية بظلالها وضوئها. أما عن الغناء فقد لعبت المغنية الروسية «آنا نتريبكو» دور آنا بإبداع حقيقي جمع بين قوة الصوت وحساسية الأداء إلي جانب المغني الأوكراني حيدر أيددرا زاكوف الذي رغم قسوة الشخصية التي يمثلها «الملك هنري» عجز عن جعلنا نكرهه، حضور لافت للنظر قوة حيوانية مذهلة وصوت نابع من الأعماق. التأثر الشعري أما «ستيفن كوستللو» وأظن أنه من أمريكا اللاتينية فإنه نجح في اعطاء دور بيرس العاشق بعداً عاطفيا خاصا زاده تأثيرا وسامته الظاهرة ورقته العاطفية التي بلغت حد التأثر الشعري. ورغم خطر دور جان سايمور استطاعت المغنية الروسية أيضا «إيكاريتا جيوبانوفا» أن تنازع البطولة مع زميلتها «آنا نتريبكو» وجعلت من «آنا بولينا» بطولة نسائية ثنائية رغم أن مشاهدها الغنائية المؤثرة لم تتجاوز الأربعة أو الخمسة مشاهد فقط. «آنا بولينا» بداية رائعة لموسم أوبرالي حافل تعدنا به دار الأوبرا المصرية انطلاقا من نيويورك وأوبراها الشهيرة وتدعونا حقا إلي «عشق» هذا الفن الصعب والمركب الذي يعتبر دون جدال أمير الفنون كلها. لأنه يجمع بين الدراما والموسيقي والأداء والفن التشكيلي متوجهاً بهالة من الإبداع الفني الحقيقي الذي لا يسمح بأية تنازلات بأي شكل ممكن. تحية من القلب لأوبرانا المصرية التي فتحت ذراعيها واسعتين لاحتضان هذا الفن الكبير الراوي ظمأ عشاقه الكثيرين.