الحياة ما بين انهيار الشيوعية وقيام الحرب في«البوسنة والهرسك» و تحول الكتلة الشيوعية إلي منطقه الرأسمالية وسيطرة رأس المال علي تصرفات الأشخاص كبوادر لقيام الحرب الأهلية في منطقه البلقان بين الجوعي والرأسماليين من هنا كان فيلم «السيرك الكولومبي» حيث نلتقي ب«ديفكو بونتيك» العائد إلي بلدته الصغيرة في شرق البوسنة بعد غياب دام عشرين عاما عن يوغسلافيا قضاها في ألمانيا ثم يعود في سيارته المرسيدس الحمراء ومحملا بالنقود أملا في استعادة منزل أسرته . انه الآن قد تخطي منتصف العمر ويبدو انه ناجح في عمله يؤمن بقوة المال وقدرته علي السيطرة تصحبه الشابة الجميلة «ازرا» التي ينوي الزواج بها وقطها الأسود بوني وسرعان ما نكتشف أن «ديفكو» قد ترك خلفه زوجته «لوسيا» وابنه «مارتن» وها هو قد عاد وقد قرر ان يطردهما من المنزل ليعيش فيه هو وصديقته يساعده في ذلك ابن عمه «ايفاندا» صاحب السلطة في القرية وتقاوم «لوسيا» لكنها تنهار وتسقط ويقبض عليها ومن السجن إلي منزل متهالك لا يعادل غرفة من منزلها السابق ويسخط «مارتن» علي الأب الذي لا يأبه لذلك لأنه عائد يحلم ببداية جديدة لحياة أفضل لكن تتعقد الأحوال مع سيطرة شبح الحرب علي القرية وسيطرة شبح الحب علي العلاقة بين «مارتن» و«ازرا» وحين تبدأ الحرب يفر الحب. الفيلم مأخوذ عن نص أدبي للأديبة اليوغسلافية «افيكا دجيك» التي شاركت في كتابة الفيلم بالتعاون مع مخرج الفيلم في أول مشاركاتها لكتابة السيناريو. المخرج اليوغسلافي الأصل «البوسنة والهرسك حاليا» « دنيس تانوفيتش» في رابع أفلامه يحلم باستعادة أمجاد فيلمه الأول «الأرض الحرام» الذي نال حوالي 80 جائزة بين عامي 2001 و و 2002 بينها جائزة الجولدن جلوب واوسكار أحسن فيلم أجنبي ويعد من أهم الأفلام التي تناولت الحرب البوسنية وقد سبق ل«دنيس» المشاركة في كتابة السيناريوهات التليفزيونية قبل عمله بالإخراج كما شارك في سيناريوهات أعماله السابقة. سيناريو كلاسيكي وقد نتج عن تعاون الروائية والمخرج حصولنا علي سيناريو كلاسيكي من الطراز الأول يعتمد في بنائه علي التسلسل المنطقي والتتابع المترابط بمنطق حسابي من منظور ان المقدمات المنطقية تؤدي إلي نتائج منطقية والسيناريو يتتالي بعملية حسابية بحتة فنجد ان تقديم «مارتن» وعلاقته بالراديو وبحثه عن التقاط موجة أمريكية تؤدي لتطور ذلك لاستخدامات تخابرية ثم استكماله بالهرب أملا في الوصول إلي أمريكا حلم الهاربين من أنحاء أوروبا كما تأتي رؤية «مارتن» ل«ازرا» لأول مره توحي بشكل تلقائي إلي نشأة العلاقة بينهما... وهكذا تتوالي الأمور بدءا من علاقات الأفراد انتهاء بالأحوال السياسية. حساسية مخرج يأتي «دنيس» كمخرج أكثر حساسية منه كسيناريست فحركة الكاميرا عند «دنيس» تعمل بالشعور والإحساس وليس بالقواعد والحسابات فهي لا تنقل الأحداث بقدر ما تدفعك إلي اقتحام الشخصيات والتأمل في نفسياتها انك تفاجأ بعد انتهاء العمل بأنك قد توغلت في أعماق الشخصيات واقتربت منها كثيرا ان دنيس لم يكتف بنقل الحدث أو تأمله لقد كان أكثر من ذلك و برهن بقوة علي انه مخرج متميز يتضح ذلك بقوة من التناغم الرائع بين حركة الكاميرا و التكوين البصري فقد جاء اختيار المخرج لاماكن التصوير متميزا للغاية واستكمل ذلك بهارموني رائع بين شريطي الصوت والصورة مما يجعلك في حاجة إلي إعادة المشاهدة اكثر من مرة لمتابعة التفاصيل الصوتية والبصرية. النجم اليوغسلافي الكبير «ميكي مانولوفيتش» في دور «ديفكو بونتيك» الحائز عام 2004 علي جائزة خاصة لإسهاماته في السينما اليوغسلافية تكريما لمشواره الطويل الذي بدأ عام 1970 حين بدأ مشواره الفني كممثل تليفزيوني وهو هنا يقدم دوراً ينقسم إلي نصفين تم وصلهما فهو ذلك القروي الحالم الذي حقق أحلامه وعاد لبلدته ليؤكد لنفسه وللجميع انه نجح و هو نفسه ذلك الرأسمالي الذي يعتقد ان كل شيء يمكن ان يشتري بالمال بدءا من الخدمات التي تتمثل في تنظيف السيارة انتهاء بالنفوس ورشوة السلطات ... وقد استخدم «ميكي» خبراته في الأداء لمزج الحالتين في مزيج قوي حتي أصبحا جسداً واحداً يحمل الشخصيتان يتمثل ذلك واضحا في مشاهد العامل الذي يبحث ل«ديفكو» عن القط وأسلوب تعامل ديفكو معه و يتجلي في النهاية في موقفه من ابنه «مارتن» . «ماريا فورلان» في دور «لوسيا» وهي ممثلة مسرح معروفة بدأت عملها في أوائل السبعينات وانتقلت من المسرح إلي السينما والتليفزيون هاجرت إلي أمريكا مع زوجها عام 91 وعملت في بعض الأعمال التليفزيونية من إنتاج «وارنر برازر » وحصلت علي جائزة أحسن ممثله تليفزيونية عام 96 و97 كما قدمت البوما غنائيا حوي مجموعة أغاني من أفلامها ونجح بشكل واضح وهي هنا تقدم دوراً بسيطاً وفي بساطته الشديدة تكمن صعوبته ولكن «ماريا» تخطت الصعوبة بالأداء المسرحي الرصين الذي أكدت به ملامح الفلاحة البسيطة رغم وجود بعض الهفوات في المشاهد التي تجمعها بابنها مارتن والتي تحتاج إلي تعبيرات وجه دون حوار وهنا سقط الأداء المسرحي وأصبح عبئ علي المخرج. مشوار قصير «بوريس لارا» صاحب المشوار القصير في دور «مارتن» في سادس أعماله الفنية وأول أفلامه الروائية الطويلة و يبدو ان بوريس الذي لم يسبق وان شاهدته علي الإطلاق يملك احد وجهين إما انه طاقة خاصة في التمثيل اكتشفها وفجرها المخرج وإما انه ملتزم للغاية والتزم بتعليمات مخرجه الذي أجاد توجيهه المهم ان النتاج النهائي هو أداء فوق الممتاز لشخصية «مارتن» . «جيلينا ستوبليجانين» في دور «ازرا » صاحبة الدراسة الأكاديمية وخريجة المعهد الوطني للدراما عام 2000 التي بدأت العمل الفني منذ 98 في ادوار صغيرة بأعمال تليفزيونية محلية وظلت في انتظار فرصة حقيقية حتي جاءتها الفرصة في فيلم «السيرك الكولومبي» الذي ساعدها علي إظهار امكانات تمثيلية رائعة ودفينة بين طيات ادوار صغيره علي شاشات التليفزيون. عمل متكامل في النهاية نحن أمام عمل فني متكامل يتحدث عن السيرك البشري وصراعاته الإنسانية والسياسية والتي يتحول فيها الرأسمالية والشيوعية إلي صراع بين الكادحين والماليين ويتحول البشر في السيرك إلي حيوانات مفترسة وأخري أليفة بعضهم يقوم بالتدريب وآخرون يقومون بادوار المهرجين.